ثم يبين سبحانه الطبيعة الإنسانية التي تخرج عن الفطرة ، تمسها الضراء فتهن ، وتذوق النعماء فتبطر ، وينسيها الترف ما كان في ضرائها . يقول تعالى:{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون21} .
وتلك هي الطبيعة الإنسانية غير الصابرة ، تذوق النعمة فتبطر معيشتها ، وتمسها الضراء فإذا بها في ضعف وخور ويأس ، تلجأ إلى الله فإذا أذاقها الرحمة عادت إلى طغوائها .
الضراء:هي الضرر فقد تكون مرضا يصيب الجسم أو جوعا وقحطا ، فالضراء هنا تشمل السقام وتشمل القلة في الطعام والرزق ، وقد أصاب قريش القحط سبع سنين دأبا حتى جاءهم الغيث فكان رحمة بهم بعد القحط وقلة الغذاء ، وقد عبر سبحانه بالإذاقة في قوله تعالى:{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء} للإشارة إلى التمكن من الرحمة والدلالة على أنهم تمتعوا بعد الحرمان .
{ رحمة} هذا تأكيد على أن الرحمة مصدرها الله تعالى ، إشارة إلى وجوب اختصاصه بالعبادة وحده ؛ لأن الرحمة كانت ولم تكن من غيره مما سموه واتخذوه أنداد لله تعالى .
{ إذا لهم مكر في آياتنا} هذا جواب الشرط{ إذا أدقنا} وصدر الجواب ب{ إذا} التي هي للفجاءة ، ودلالتها في هذا المقام أنهم بأسائهم كان ينخفض وراء خضوعهم الظاهر جحود قد استنبطوه ، سترته الشدة وكشفته الرحمة ، فظهر مكنون نفوسهم وهو مكرهم في آياتنا ، يقولون إنها سحر مبين أو بهتان وإفك ، أو يقولون:إنما يعلمه بشر ، والله راد كيدهم بتدبيره الحكيم .{ مكر} المكر هو الكيد الخفي ، وقد قال سبحانه:{ قل الله أسرع مكرا} فإذا بدا المكر السيئ الذي أخفته الضراء ، فإن تدبير الله ورده عليهم أقوى وأحد .
ثم يبين سبحانه علمه بما يبدون وما يخفون وما يسرون ويعلنون ، فقال سبحانه{ إن رسلنا يكتبنا ما تمكرون} وهم الكرام الحفظة الكاتبون من الملائكة . وفي هذا إشارة إلى دقة ما يعلمه عنهم ، وإلى أن ما يدبرون يعلمه- سبحانه وتعالى – في وقته فيكتبه .