{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ 21}
المفردات:
أذقنا الناس رحمة: أنعمنا عليهم بالرحمة والمراد بها: الصحة والسعة .
من بعد ضراء مستهم: أي: من بعد ضراء أصابتهم حتى أحسوا بشدتها عليهم .
إذا لهم مكر في آياتنا: المراد بالمكر هنا: الطعن في آيات الله وعدم الاهتداء بها ،والاحتيال في ردها .والمكر في الأصل: تدبير الكيد في خفاء .
قل الله أسرع مكرا: المراد بيان أن الله أعجل عقوبة وأشد أخذا .
التفسير:
21{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ...} الآية .
سبب النزول:
روى البخاري ومسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛دعا عليهم بسنين كسني يوسف ؛فأصابهم قحط وجهد ،حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد ،وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع .
فأنزل الله تعالى:{فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم} .( الدخان: 10 ،11 ) .
فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ،إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم ،وإن قومك ربما هلكوا ؛فادع الله لهم ،فدعا لهم ؛فكشف الله عنهم العذاب ،ومطروا ،فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله ،ويعادون رسوله ويكذبونه !
وعلماء القرآن يذكرون: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛فالآية تسجل طبيعة الناس عامة ؛وهي التضرع والبكاء في البأساء ،فإذا رزقهم الله الغنى بعد الفقر ،واليسر بعد العسر ،والهناء بعد الشقاء ؛لم ينسبوا هذه النعم إلى الله تعالى بل نسبوها إلى الصدفة أو أهليتهم لهذه النعم ،ودبروا كيدا ومكرا للتخلص من شكر الله على النعماء .والمراد: أنهم انصرفوا عن شكر الله وحمده ،وانشغلوا بأهوائهم ،وقريب من هذا المعنى ما سبق في هذه السورة:{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} .( يونس: 12 ) .
جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر:
والمعنى: وإذا أنعمنا على هؤلاء الكفار وأمثالهم بنعمة الصحة والسعة ،وأفضنا عليهم أنواع الخير ؛ورحمناهم بكشف ما نزل من المصائب الأليمة ،والمكاره الشديدة التي خالطتهم وأحاطت بهم ؛حتى أحسوا بشدة وطأتها عليهم ،وسوء أثرها فيهم ،إذا رحمناهم بكشفها ؛سارعوا سرا وفي خفاء إلى تدبير ضروب الكيد لآياتنا ؛التي أنزلناها على رسولنا محمدصلى الله عليه وسلمواحتالوا في دفعها وبالغوا في تكذيبها .ا ه .
{قل الله أسرع مكرا} .
أي: الله سبحانه وتعالى أقوى أخذا للمكذبين وأشد إهلاكا للماكرين ،فلن يمهلكم حتى تظفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ،وتنالوا منه بمكركم وكيدكم ،بل إن الله سيدبر حفظه ونصره وحمايته ،وقد دبر المشركون كيدا ومكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فدبروا حبسه أو نفيه أو قتله ،بيد أن الله دبر نصره وحفظه ؛فأمره بالهجرة إلى المدينة وأعقب ذلك بالنجاح والنصر المبين .
قال تعالى:{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} .( الأنفال: 30 ) .
ونسبة المكر إلى الله تعالى من باب المشاكلة وهي شيء طريف في اللغة العربية ،مثل قول الشاعر:
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه ***قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
{إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} .
أي: إن الحفظة من الملائكة الكرام الكاتبين يسجلون عليكم أعمالكم وكيدكم ومكركم ،ويخبرون بها الله سبحانه وتعالى حتى يجازيكم عليها .
وفي هذا دليل على تمام الضبط والحفظ والعناية ،وأن كيدهم ومكرهم لن يخفى على الله سبحانه .
قال تعالى:{أحصاه الله ونسوه} .( المجادلة:6 ) .
وقال سبحانه:{ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} .( الكهف: 49 ) .