{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 20}
الكلام في منكري الوحي من المشركين المنكرين للبعث ، حكى عنهم عجبهم من الوحي إلى بشر مثلهم ، ورد عليهم بأنواع الحجج المتقدمة المتضمنة لبطلان شركهم وإنكارهم للبعث ، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن الدال- بأسلوبه ونظمه وعلومه وهدايته -على أنه وحي من كلام الله عز وجل أو تبديله ، ورد عليهم بما علمت .ثم حكى عنهم في هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال ربه عليه آية كونية غير هذا القرآن ، وما فيه من الآيات العلمية والعقلية على النبوة والرسالة ، مع الرد عليها .والجملة معطوفة على جملة ما قبلها من حكايات أقوال المشركين وأعمالهم في جحود الرسالة ، ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد والإيمان بالبعث ، لا على آخر ما حكاه عنهم في قوله:{ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا} [ يونس:18] خاصة لقربه ، وكون كل منهما بلفظ المضارع ، فإن المحكي هنا غير مشارك للمحكي قبله في خاصة موضوعه أو ما يناسبه ، ولا على ما حكاه عنهم من طلب الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله خاصة إن كانا في موضوع واحد ، لبعده ، وللاختلاف بينهما في حكاية ذاك بالماضي وهو{ قال الذين لا يرجون لقاءنا} وحكاية هذا بالمضارع الخ .
وقال الزمخشري في الكشاف في ترجيحه:إن المضارع هنا بمعنى الماضي هناك ، وإنما آثر المضارع على الماضي ليدل على استمرار هذه المقالة ، وأنها من دأبهم وعادتهم ، مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة اه ، وقد أخطأ في الترجيح وباعد ، وإن سدد في التعليل وقارب ، والتحقيق أن المعنى الجامع بين الجمل المتعاطفة في هذا السياق حكاية أنواع جحودهم في جملتها ، وأن التعبير بالمضارع في هذه وما قبلها وفيما سيأتي من قوله:{ أم يقولون افتراه} [ يونس:38] وقوله:{ ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ يونس:48] إنما هو لما يتكرر من أقوالهم في الجحود ، فإن اقتراح نزول آية كونية عليه قد تكرر منهم ، وذكر في سور منها ما نزل قبل هذه السورة ( يونس ) ، ومنها ما نزل بعدها ، كما سنوضحه بشواهده ، فمعنى الآية هكذا:
{ ويَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي قد قالوا ولا يزالون يقولون:هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية كونية -كآيات الأنبياء- يحدثنا عنهم ، حكى سبحانه عنهم هذا الاقتراح هنا مجملا ، وأجاب عنه جوابا مجملا ؛ لأن كلا منهما قد سبق مفصلا في سور أخرى ، وقد جهل هذا كفار الإفرنج وتلاميذهم من ملاحدة مصر ، فقالوا في مثله:إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يفر من مناظرة المشركين .
{ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} والآيات من عالم الغيب عند الله تعالى وبيده وحده ؛ لأنها خوارق فوق قدرة البشر ، وإنما أنا بشر والغيب لله لا يعلمه غيره ، فإن كان قدر إنزال آية علي فهو يعلم وقتها وينزلها فيه ، وأنا لا أعلم إلا ما أوحاه إلي .
{ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}لما يفعله بي وبكم ، كما قال تعالى بعد حكاية رميه صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [ الأحقاف:9] ، ويفسر ما ينتظره وينتظرونه منه قوله في أواخر هذه السورة{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [ يونس:102] ، وفيه إنذار لهم بالعذاب وهو قسمان:عذاب الاستئصال لمن أوتوا ما اقترحوا على رسلهم من الآيات ، فأصروا على الجحود والعناد ، وعذاب من لم يؤتوا ذلك ، وهو خذلانهم ونصر الرسل عليهم في الدنيا وما وراءه من عذاب الآخرة .
حكى الله تعالى عنهم اقتراح آية أو آيات مبهمة في بعض السور ، واقتراح آيات معينة في سور أخرى ، منها ما نزل بعد هذه السورة وهي الحجر ( 6 8 ) ، فالأنعام ( 8 و 9 و 39 و 41 و 109 و 111 ) ، فالأنبياء ( 5 ) ، فالعنكبوت ( 5 ) ، فالرعد ( 8 و 28 ) ، وفيها أجوبة:فأما الأنعام ففيها تفصيل لكون الآيات لا تزيدهم إلا عنادا وإصرارا على الجحود ، فتحق عليهم كلمة عذاب الاستئصال ، وتنافي مراد الله تعالى من بعثة خاتم النبيين ، وتقدم تفسيرها في الجزأين 7 و 8 من تفسيرنا هذا فيراجع ، ثم أجمل ذلك في سورة الأنبياء فقال:{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [ الأنبياء:6] ، ثم أجاب عنها في سورة العنكبوت بقوله:{ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [ العنكبوت:51] .
لكنه كان قد فصل مقترحاتهم مع الرد عليها في السور التي قبل ذلك كله ، كقوله تعالى:{ وقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [ الفرقان:7 ، 8] ، ثم حكى عنهم في سورة بني إسرائيل ( 17 ) أنهم طالبوه صلى الله عليه وسلم بواحدة من بضع آيات ، وعلقوا إيمانهم على إجابة طلبهم ، فقال بعد بيان عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، وما صرفه فيه للناس من جميع ضروب الأمثال:{ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} [ الإسراء:90] الخ الآيات الأربع ، ثم لقن رسوله صلى الله عليه وسلم الرد عليهم بقوله:{ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رَّسُولاً} [ الإسراء:93 ، 94] ، أي سبح ربك في جوابهم ، تسبيح التعجب من قولهم ، وذكِّرهم بأنك بشر مثلهم ، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بالآيات الخارقة لسنن الكون ، وأن آفتهم هي آفة من كان قبلهم من الأقوام الذين لم يعقلوا ما جاء به الرسل من الهدى ، وأنه متى تبين وجب على العاقل اتباعه لذاته ، فاحتقروا الرسل الذين جاءوهم به لأنهم بشر مثلهم ، واقترحوا أن تجيئهم به الملائكة ، وأنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون كالبشر يمكنهم التلقي عنهم لنزل عليهم ملكا ، ثم بين لهم أنه إذا نزل الملك فهو لا ينزل إلا بالعذاب ، إلا أن يجعل بشرا ، وإذا لاحتجوا عليهم بأنه مثلهم ، كما قال في سورة الحجر حكاية لخطابهم للذي نزل عليه الذكر{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ ومَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} [ الحجر:7 ،8] ، وقال في الأنعام:{ وقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ولَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [ الأنعام:8 ،9] .
ولقنه في هذه السورة ( بني إسرائيل ) حجة أخرى في حكمة عدم نزول الآيات الكونية عليه أو سببه ، وهي قوله:{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَولُونَ} [ الإسراء:59] ، أي وما صرفنا عن إرسال الآيات اللاتي اقترحتها قريش إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع والعادة ، كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ، واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما مضت به سنتنا .وقد قضينا أن لا نستأصلهم ؛ لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية ، وأنه هو رحمته العامة الشاملة ، ولأن فيهم من يؤمن أو يولد لهم من يؤمن .ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة ، فنذكره مع عبارة البيضاوي الوجيزة في تفسيره وهو{ وآتينا ثمود الناقة} [ الإسراء:59] لسؤالهم ،"مبصرة "بينة ذات إبصار أو بصائر أو جاعلتهم ذوي بصائر ،"فظلموا بها "أي فكفروا وظلموا أنفسهم بسبب عقرها ،"وما نرسل بالآيات "أي المقترحة ،"إلا تخويفا "من نزول العذاب المستأصل فإن لم يخافوا نزل "اه .
وفي سورة القصص -وقد نزلت بعد الفرقان قبل بني إسرائيل- تفصيل لقصة موسى في مولده ونشأته ، وفراره من فرعون إلى مدين ، وبعثته في طور سيناء الخ ، وقد صرح في آخرها أنها تدل على رسالته صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يكن يعلم من أمرها شيئا ، فهي من علم الغيب ، كما تراه في الآيات ( 44 و45 ) منها ، وقد تقدم نصها ( في مباحث الوحي ج 11 تفسير ) ، ثم قال:{ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَولَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [ القصص:47 48] الخ .
فجملة ما ورد في اقتراح الآيات الكونية من مجمل ومفصل يفسر بعضه بعضا ، وهو مقرر لما علم بالقطع من دين الإسلام أن الله تعالى جعل حجته على رسالة خاتم النبيين هذا القرآن - المشتمل على كثير من الآيات العقلية والعملية والإصلاحية وإخبار الغيب وإعجاز الأسلوب والنظم والتأثير في الهداية الخ- ما فصلناه في الفصل الاستطرادي الذي عقدناه لإثبات الوحي في أول تفسير السورة ( ج 11 ) ، وقد آتى الله رسوله خاتم النبيين آيات أخرى علمية وكونية ، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ، ولا أمره بالتحدي بها ، وإنما كانت تكون لضرورات اشتدت حاجة الأمة إليها كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم وتقدم بيانه .
ويؤيد هذه القاعدة المأخوذة من هذه الآيات كلها ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة "{[1706]} ، وقد يعارضه آية انشقاق القمر مع ما ورد في أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر ، فكان فرقتين{[1707]} ، ولكن في الأحاديث الواردة في انشقاقه عللا في متنها وأسانيدها وإشكالات علمية وعقلية وتاريخية فصلناها في المجلد الثلاثين من المنار ، وبينا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم في القرآن ، وكون الآيات المقترحة تقتضي إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال ، هو الحق الذي لا ينهض لمعارضته شيء ، وسنعود إليها في تفسير سورة القمر إن أحيانا الله تعالى ، ووفقنا لإتمام التفسير بفضله .