/م103
{ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة} أي في ذلك الذي قصه الله من إهلاك أولئك الأقوام ، وما قفى عليه من بيان سنته في الظالمين ، لحجة بينة وعبرة ظاهرة ، على أن ما يجري في خلقه من نظام سننه هو بمشيئته واختياره ، وإنما هو آية وعبرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقي الظلم في الدنيا بجميع أنواعه ، لإيمانه بأن من عذب الأمم الظالمة في الدنيا قادر على تعذيبهم في الآخرة ، ولا يغتر بعدم وقوع العذاب عليه في الدنيا كأولئك الأقوام كما كانوا مغرورين ، فإن كان العذاب العام إنما نزل بمن أجمع منهم على الشرك والظلم والفساد ، فتلك سنته تعالى في الأقوام دون الأفراد ، وقد علم منها أن الله تعالى لا يهلك الأمة في جملتها مادام أحد من أهل التوحيد والتقوى ، إذ كان يخرج رسله وأتباعهم من قومهم قبل هلاكهم ، وأما الأفراد فتعذيبهم في الدنيا بظلمهم كثير ولكنه غير مطرد ، وقد تكون نجاتهم فيها بصلاح غيرهم من أهلها كما بيناه مرارا ، ولذلك أفرد الخائف هنا .
قال القاضي البيضاوي في تخصيص الآية بالخائف:يعتبر بها لعلمه بأنه من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار ، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها اه .
أقول:ذكرت في الكلام على العبرة بهلاك قوم نوح بالطوفان أن كفار الماديين وملاحدة المليين في هذا الزمان يقولون مثل هذا الذي حكاه البيضاوي عن منكري الآخرة في عصره ، يقولون:إن الطوفان حدث بسبب طبيعي لا بإرادة الله واختياره لتربية الأمم ، وإنهم هكذا يقولون فيمن هلكوا بالريح وبالصاعقة وبخسف الأرض .وقلت في الرد عليهم:إن حدوث المصائب بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن ، ولكن الله تعالى أحدث الأسباب في تلك الأوقات بحكمته لأجل عقاب تلك الأمم بها ، ولم تكن بالمصادفة والاتفاق ، والدليل على ذلك إنذار الرسل لأقوامهم إياها قبل وقوعها ، ومنهم من ذكر موعدها بالتعيين والتحديد ، وهكذا يفعل الله بالظالمين في كل زمان ، وإن لم يكن فيه رسل يطلعهم على وقت وقوعه لينذروا الناس به اكتفاء بإنذار القرآن ، وقد قال فيه{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} .
{ ذلك يوم مجموع له الناس} أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة .فكان ذكره دليلا عليه يوم يجمع له الناس كلهم ، أي لأجل ما يقع فيه من الحساب الذي يترتب عليه الجزاء .وفي جعل جمع الناس له [ بصيغة اسم المفعول] صفة من صفاته مبالغة ، كانت بها الجملة هنا أبلغ من جملة{ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} [ التغابن:9] في إثبات الجمع ، لأن تلك سيقت لأجل إثبات ما يقع في ذلك اليوم من التغابن ، أي غبن الناس بعضهم بعضا بتفاوت أعمالهم من الخير والشر وجزائهم عليها ، وهذه لأجل إثبات الجمع له في ذاته لتصوير هوله ، ومثله قوله:{ وذلك يوم مشهود} يشهده الخلائق كلهم من الإنس والجن والملائكة والحيوانات وغيرها ، وقد صار هذا التعبير الوجيز البليغ مثلا توصف به المجامع الحافلة بكثرة الناس ، أو الأوقات التي يكثر من يشهدها منهم .