{ ألا إنهم هم المفسدون} فابتدأ الكلام المؤكد لإثبات إفسادهم بكلمة"ألا "التي يراد بها التنبيه والإيقاظ وتوجيه النظر ، وتدل على اهتمام المتكلم بما يحكيه بعدها{ ولكن لا يشعرون} بأن هذا إفساد غرز في طبائعهم ، بما تمكن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أشربوا عظمتهم .وهذا دليل على أنهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين ، وأنهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل كما تقدم في تفسير آية{ يخادعون الله} .
وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمة كما قدمنا فليحاسب بها نفسه كل مسلم يعتقد أن القرآن إمامه ، وأن فيه هدى له فإنها حجة على كثير ممن يدعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به ، ويتبعون غير سبيله ؟
وأقول الآن:هذه جملة ما قرره شيخنا في الدرس واضعا نصب عينيه منافقي اليهود ، ولاسيما فقهائهم الذين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وشدة الشبه بينهم وبين فقهاء السوء ، ولاسيما فقهاء عصرنا هذا – ولذلك نبه لعموم الآيات وشمولها لهم لها عودا على بدء ، وإنما مراده بنفي الرياء عنهم أنهم يعتقدون ما قالوا هنا ، وهو لا ينفي رياءهم في غيره من أقوالهم وأفعالهم .وقد كان لأولئك الأحبار والرؤساء من الإفساد غير ما ذكر ، ومنه إغراء المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ووعدهم بمساعدتهم عليه ، وهذا إفساد كبير في الأرض ، وكانوا يستبيحونه بأنه توسل إلى حفظ سلطتهم ورياستهم المهددة بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
ولم يذكر فيما كتبت عنه رأيه فيمن سألهم وقال لهم ما ذكر وأجابوه بهذا الجواب ، هل هو الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون ؟ وهي الاحتمالات التي ذكرها المفسرون – وزاد بعضهم رابعا وهو أن يكون بعضهم سأل بعضا لما كانوا عليه من اختلاف الحال وتباين الآراء ، كما قال تعالى فيهم{ 59:14 تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} فأي مانع لنهي بعضهم لبعض عن نكث ما عاهدهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إقرارهم على دينهم وحفظ أموالهم وأنفسهم بأن لا يؤلبوا عليه المشركين ولا يساعدوهم عليه – وأن يقولوا للناكثين المفسدين:إن الحرب فساد عظيم لا يؤمن أن يتعدى إلينا شرها فيطير من شررها ما نحترق به ، فدعوا تأليب قوم محمد عليه ؟ - ثم أي مانع يمنع أن يجيبهم أولئك المفسدون ككعب بن الأشرف:إنما نحن مصلحون بمساعدة قومه عليه ، لأننا نخشى منه ما لا نخشى منهم ، فقد عشنا معهم أجيالا لم ينازعنا منهم أحد في صحة ديننا ، لأنهم لا يدعون إلى شركهم ولا يحتقرون ما نحن عليه من الدين:بل يروننا فوقهم في العلم ، ومنهم من يعطينا أولاده لتربيتهم ولا يكرهون أن نلقنهم ديننا ، وأما محمد فيقول إننا ضللنا عن ديننا نفسه ويعيبنا بتحريف سلفنا وخلفنا لكتابنا ، وبما كان من مخازي تاريخنا ، كقتل الأنبياء ، ونكث العهود ، وأكل السحت .فإذا كان له الغلب على مشركي قومه لا نأمن أن يبقى لنا ديننا ومكانتنا السامية في بلاد العرب ، وإن هو حفظ عهده لنا ، ولم يغدر فيقاتلنا ، فكيف إذا هو غدر بنا وقاتلنا بعد الفراغ من قومه ؟
هذا أقرب إلى المعقول مما قاله المفسرون في السؤال والسائل ، وفيه وجه آخر لعله أقوى ، وهو أن السؤال والجواب مفروضان فرضا ، والمراد بيان حالهم في هذا الأمر وما تنطوي عليه جوانحهم بصيغة السؤال والجواب التي هي أقوى أساليب الكلام تنبيها للأذهان ، وتوجيها لها إلى الإحاطة بمعاني الكلام ، ولذلك يستعملها العلماء في بيان مهمات المسائل وحل عويص المشاكل ، يقولون:إذا قيل كذا قلنا كذا ، وإن سئلنا عن هذا أجبنا بكذا .وأما الفرق بين الشرطين في مثل هذا الأسلوب فالبلاغة تقتضي أن يكون السؤال بإذا عما كان سببه قويا من شأنه ألا يسكت عنه ، ويصدر بأن إذا كان سببه ضعيفا ولكنه محتمل ، فيجاب عنه احتياطا .
ثم أقول:إن ما تقدم مبني على أن السؤال والجواب في بيان حال منافقي اليهود ، وهو المختار عند شيخنا .وقد ورد في التفسير المأثور جعله في بيان حال منافقي المدينة من العرب كعبد الله بن أبيّ ابن سلول وحزبه .فإنهم كانوا يفسدون في الأرض بالتشكيك في الدين ، وبتفريق كلمة المؤمنين ، كما فعلوا في غزوة أحد ثم في غزوة تبوك ، فكان هذا شأنهم وإن كانت الغزوتان بعد نزول هذه السورة .
وروى تفسير إفسادهم بالكفر والمعاصي ، وما قلناه منه ولكنه أخص وهو المتبادر .ودعواهم أن هذا إصلاح كدعواهم الإيمان ، وكل مفسد وضال يسمى إفساده وضلاله بأسماء حسنة .كما يسمون الشرك بالله في زمننا بدعاء غيره:توسلا .وعن ابن عباس أنهم كانوا يقولون:إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب ثم صورت الآيات ذلك الجهل والغرور في الفريقين بصورة أخرى أشد تشويها مما قبلها ، لأن تلك صورتهم في عملهم ، وهذه صورتهم في جوهر إيمانهم ، وهي{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}