/م142
{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} استفهام إنكاري بين الله لنا به أنه سبحانه لا يعذب أحدا من عباده تشفيا منه ولا انتقاما بالمعنى الذي يفهمه الناس من الانتقام بحسب استعمالهم إياه فيما بينهم ، وإنما ذلك جزاء كفرهم بنعم الله عليهم بالحواس والعقل والوجدان والجوارح باستعمالها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها إلى تكميل نفوسهم بالعلوم والفضائل والأعمال النافعةوكفرهم بالله تعالى باتخاذ شركاء له:وإن سماهم بعضهم وسطاء وشفعاء .فبكفرهم بالله تعالى وبنعمه عليهم في الآفاق وفي أنفسهم تفسد فطرتهم ، وتتدنس أرواحهم ، فتهبط بهم في دركات الهاوية ويكونون هم الجانين على أنفسهم .ولو شكروا وآمنوا فطهرت أرواحهم من دنس الشرك والوثنية ، وظهرت آثار عقولهم وسائر قواهم بالأعمال الصالحة المصلحة لمعاشهم ومعادهم ، لعرجت بهم تلك الأرواح القدسية إلى المقام الكريم ، والرضوان الكبير في دار النعيم ، وقدم الشكر هنا على الإيمان لأن معرفة النعم والشكر عليها طريق إلى معرفة المنعم والإيمان به .
{ وكان الله شاكرا عليما} يثيب الشاكرين الصالحين المصلحين على حسب علمه بحالهم ، لا أنه يعذبهم ، بل يعطيهم أكثر مما يستحقون على شكرهم وإيمانهم ، قال عز وجل:{ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [ إبراهيم:7] سمى ثباتهم على الشكر شكرا ، وهم إنما يحسنون بشكره إلى أنفسهم ، وهو غني عنهم وعن شكرهم وإيمانهم ، ولكن قضت حكمته ، ومضت سنته ، بأن يكون للإيمان الصحيح والأعمال الصالحة أثر صالح في النفس ، يترتب عليه الجزاء الحسن والعكس بالعكس ، فنسأله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الشاكرين ، وأن يشكر لنا ذلك في الدارين ، والحمد لله رب العالمين .
تم الجزء الخامس من التفسير وقد نشر في المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من المنار .بدأت بكتابة هذا الجزء وأنا في القسطنطينية سنة 1328 ففاتني تصحيح ما طبع منه في أثناء رحلتي تلك .وأتممته في أثناء رحلتي هذا العام ( 1330 ) إلى الهند فمنه ما كتبته في البحر وما كتبته في المدن والطرق بالهند ، ومنه ما كتبته في مسقط والكويت والعراق ، وقد أتممته في المحجر الصحي بين حلب وحماه في أوائل شعبان سنة ثلاثين وثلاث مئة وألف ، ونشر آخره في جزء المنار الذي صدر في آخر رمضان ، ولم أقف على تصحيح شيء مما كتبته في أثناء هذه الرحلة أيضا .وفي أثناء هذا الجزء انتهت دروس الأستاذ الإمام عليه الرحمة والرضوان .وسنسير في تتمة التفسير إن شاء الله على الطريقة التي أخذناها عنه ونهتدي بهديه فيها إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .