سأل العليم الحكيم كيف تكون المعاملة في هذه الحال تمهيدا لبيان ما يجب العمل به وهو قوله تعالى:{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين ليظهروا عداوتهم .قال الأستاذ الإمام:والعبارة تدل على تعظيم الأمر أي فظاعته وكبره ولا يزال مثلها مستعملا فيما يعظم شأنه من خير وشر ومسرة وحزن ، يقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده:الله يعلم ما في نفسي لك ، أي ويقول في العدو الماكر المخادع الله يعلم ما في قلبه .والمعنى أن ما في قلوب هؤلاء المنافقين كبير جدا لا يعرفه كما هو إلا الله تعالى{ فأعرض عنهم} أي اصرف وجهك عنهم ولا تقبل عليهم بالبشاشة والتكريم{ وعظهم} ببيان سوء حالهم لهم إذا هم أصروا على ما هم عليه{ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها .
أقول:أما الإعراض عنهم فهو يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة فإنهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم ولا جازمين بما في نفوسهم من تكذيب الوحي ولذلك كانوا يحذرون أن تنزل سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، ويحسبون كل صيحة عليهم ، فإذا رأوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وعدم الالتفات إلى أعذارهم المؤكدة بأيمانهم الكاذبة على خلاف عادته مع أصحابه من الإقبال عليهم والبشاشة في وجوههم فإنهم يظنون الظنون:لعله عرف ما نسر في نفوسنا ، لعل سورة نزلت نبأته بما في قلوبنا ، لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا .وهذه الظنون تعدهم للتأمل فيما يلقي عليهم من الوعظ وهوكما تقدم في تفسير الجزء الثانيالنصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل .
وأما الأمر الثالث وهو:{ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} فقيل معنى قوله:{ في أنفسهم} في شأن أنفسهم كأن يذكر لهم من شأن أنفسهم في عقائدها وما تنطوي عليه سرائرها وما يترتب على تلك العقائد والسرائر ، من الأعمال الدالة على أن الظاهر مرآة الباطن ، ويبين لهم أن هذه الذبذبة لم تكن خيرا لهم فيما يهمهم من أمر دنياهم ، لأنهم صاروا بها في اضطراب دائم ، وهم ملازمون ، وهي شر لهم في آخرتهم ، وقيل في أنفسهم معناه في السر دون الملأ لأن الكلام في السر يبلغ من النفس ما لا يبلغه الكلام على مسمع من الناس ، فإن من تحدثه خاليا لا يشغله عن معنى حديثك ما يشغل غيره من ذهاب نفسه وراء تأثير حديثك في نفوس الناس الذين سمعوه:هل يحتقرونه به ، هل يحدثون به غيرهم ، ماذا ينبغي أن يفعل وأن يقول إذا قيل له فيه أو احتقر لأجله .قيل:المعنى:قولا بليغا في أنفسهم أي يغوصوا فيها ويبلغوا غاية ما يراد به منها ، وهو الذي أشار إليه الأستاذ الإمام:وفيه تقديم الصفة على الموصوف وهو جائز عند الكوفيين ، وكثيرا ما يرجح الأستاذ الإمام مذهبهم ولا سيما في الجواز واستعمال اللغة ، والبصريون لا يجيزونه إلا حيث يجوز تقديم العامل وتوسع بعضهم في الظروف .وقيل إن المراد بالقول البليغ:أن يكون الوعظ بكلام بليغ وقيل هو أمر ثالث فالوعظ النصح المتعلق بأمر الآخرة والقول البليغ ما يكون في أمر الدنيا ومعاملتهم فيها .وذكر بعضهم أن من بلاغة الكلام طوله وهو قول مردود .
وفي الآية شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على الكلام البليغ وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه ، لأن الكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين وهي شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في موضعه وهذا بمعنى إيتاء الله تعالى نبيه داود الحكمة وفصل الخطاب وما أوتي نبي فضيلة إلا وأوتي مثلها خاتم النبيين ( صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين ) وشهادة الله تعالى له في هذا المقام أكبر شهادة وإنما آتاه الله تعالى هاتين المزيتين على وجه الكمال بالنبوة والقرآن ولم يكن قبل النبوة مشهورا بين قومه بالفصاحة والبلاغة ، وإن كان فصيحا بليغا ، لأن الله تعالى صرفه عن مظهر فصاحتهم وبلاغتهم وهو الشعر والخطابة والمماتنة ( المغالبة ) في الأسواق والمجامع .وإنما صرفه الله تعالى عن ذلك لتكون حجته في إعجاز القرآن بالبلاغة أظهر وأبعد عن الشبهة فلا يقولن قائل إنه تمرن على الكلام البليغ وزاوله الزمن الطويل حتى ارتقى فيه إلى هذه القمة العليا التي لا يطاول فيها .هذه هي حجتنا المؤيدة بسيرته الشريفة .على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معدودا قبل النبوة في بلغاء القوم بالشعر ولا الخطابة ولم يكن يحفل بمفاخراتهم ومماتناتهم فيها وإنما كان مشهورا بالأمانة والفضيلة والصدق .وأما دليلنا على أن الحكمة العليا كالبلاغة العليا قد كمله الله تعالى بها بالنبوة أيضا فنصوص القرآن ، وسيأتي منها في هذه السورة قوله تعالى:{ وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [ النساء:112] .
قال القاضي عياض في الشفاء: "وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإيجاز مقطع ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلف ، أوتي جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه ، وتفسير قوله ، من تأمل حديثه وسبره ، علم ذلك وتحققه ، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمذاني وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضر موت وملوك اليمن "ثم أورد الشواهد على ذلك .