/م51
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} اتفق رواة التفسير المأثور على نزول الآية في المنافقين ، فهم الذين في قلوبهم مرض ، أي إيمانهم معتل غير صحيح ، إذ لم يصلوا فيه إلى مستقر اليقين ، وكان عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ذا ضلع مع يهود بني قينقاع .وكان غيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود ، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها ، كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء الثابت عليه ، الراغب في ما يزيده تمكننا وثباتا ، ولهذا قال{ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ولم يقل: "يسارعون إليهم ".فما عذر هؤلاء الذين يرددونه في أنفسهم ، ويقولونه عند الحاجة بألسنتهم ؟
{ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي نخشى أن تقع بنا مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان ، أو من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها .فنحتاج إلى نصرتهم لنا .فنحن نتخذ لنا يدا عندهم في السراء ، ننتفع بها إذا مست الضراء .والمراد أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين – وكان اليهود عونا للمشركين على المؤمنين كما ظهر في وقعة بدر والأحزاب – فيحل بهم ما يحل بالمؤمنين من النقمة .ذلك بأنهم غير موقنين بوعد الله بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله .لأنهم في شك من أمر نبوته ، لم يوقنوا بصدقها ولا بكذبها .فهم يريدون أن ينتفعوا منها بإظهارهم الإيمان بها .وأن يتخذوا لهم يدا عليها لأعدائها ليكونوا معهم إذا دالت الدولة لهم .
وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان .وهو الذي جعل كثيرا من وزراء بعض الدول منذ قرن أو قرنين ما بين روسي وإنكليزي وألماني في سياسته ، كل منهم يتخذ له يدا عند دولة قوية ، يلجأ إليها إذا أصابته دائرة ، حتى تغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة .فأضعفن استقلالها في بلادها .ويخشى ما هو أكبر من ذلك من خطر نفوذهن فيها ، وحتى صار بعض رجالها الصادقين لها ، يرون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بنفوذ بعض هذه الدول على بعض .وأما الذين استعمر الأجانب بلادهم – بأي صورة من صور الاستعمار وأي اسم من أسمائه – فأمر منافقيهم أظهر ، يتقربون إلى الأجانب بما يضر أمتهم فيما لم يكفوهم إياه ، ويسمون هذا تأمينا لمستقبلهم .واحتياطا لمعيشتهم ، ولو التزموا الصدق في أمرهم كله فلم يلقوا أمتهم بوجه والأجانب بوجه لكان خيرا لهم ، وأقرب إلى الجمع بين مصلحة البلاد ومداراة الأجانب .ولكنه النفاق يخدع صاحبه ، بما يظن صاحبه أنه يخدع به غيره ، ويسلك سبيل الحزم لنفسه .وهو الذي يحمل بعض المنافقين الخائبين على نهب مال أمتهم ودولتهم ، وإيداعه في مصارف أوربة لأجل التمتع به إذا دارت الدائرة على دولتهم .
قال الله تعالى ردا على المنافقين عصر التنزيل{ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي فالرجاء بفضل الله تعالى وصدقه ما وعد به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بالفتح والفصل بين المؤمنين ومن يعاديهم من اليهود والنصارى ، أو يأمر من عنده في هؤلاء المنافقين ، كفضيحتهم أو الايقاع بهم ، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين وتوقع الدائرة عليهم .فالفتح في اللغة:القضاء والفصل في الشيء ، وهو يصدق بفتح البلاد وبغير ذلك .ومنه قوله تعالى حكاية{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [ الأعراف:89] وقوله:{ ويقولون متى هذا الفتح} [ السجدة:28] وقيل المراد فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله .ولا يصح هذا القول إلا إذا كانت الآيات نزلت قبل فتح مكة ، مع الجزم بأن أوائل السورة نزلت بعد ذلك في حجة الوداع .ويمكن حينئذ أن يكون المراد بالفتح فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها .وفسر بعضهم الأمر من عنده بالجزية تضرب على أهل الكتاب .فينقطع أمل المنافقين منهم ، ويندموا على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم .
وفسره بعضهم بالإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم .وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم ، إما بالقهر ، والإيجاف عليهم بالخيل والركاب [ كبني قريظة] وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم ، حتى يعطوا بأيديهم [ كبني النضير] .
/خ53