/م74
{ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي}:أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال:هذا ربي ، على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما تقدم ، وقد استعملت العرب هذا الحرف في التعبير عن ابتداء طلوع النيرات وأول طلوع الناب .وفي بزغ البيطار والحاجم للجلد وهو تشريطه بالمبزغ ، ولذلك قالوا إن معنى البزغ الشق فالنيرات تشق الظلام بطلوعها ، وجعله بعضهم تشبيها بشق الناب والسن للثة وشق البيطار والحجام للجلد .والظاهر أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى الكوكب في ليلة ورأى القمر في الليلة التالية لها كما يؤخذ من العطف بالفاء وذلك أنه لا فاصل بين ليلة وأخرى إلا النهار وهو ليس بمظهر للكواكب والقمر فكأنه غير فاصل .ويحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة وإذا كانت هذه الليلة هي التي رأى الشمس في أول نهارها- وهو المتبادر- وجب أن يكون رأى الكوكب في أول الليل هاويا للغروب وبعد أفوله بقليل بزغ القمر ، وأن ذلك كان في وسط الشهر ، وأنه سهر مع بعض قومه الليل كله حتى أفل القمر في آخره ، وكثيرا ما يفعل الناس هذا ولا سيما في الليالي البيض ولو لم يكن لهم غرض ديني أو علمي منه .
وقد يتصور وقوع ذلك في بعض الليالي القليلة من السنة كالليلة الخامسة عشرة من شهر رجب من سنتنا هذه ( سنة 1336 ) فإن الشمس تغرب فيها عن أفق مصر الساعة 6 والدقيقة 28 ويطلع القمر بعد غروبها بعشرين دقيقة وفي هذه المدة يحتمل أن يرى بعض السيارات أو نحوها من النجوم المشرقة الممتازة كالشعرى هاويا للغروب ويغرب بعدها بربع ساعة ويغرب القمر في تلك الليلة بعد انتهاء الساعة الرابعة بدقيقتين من صبيحتها وتشرق الشمس بعد غروبه بأربع عشرة دقيقة .ولكن يعكر على هذا أنه لا يظهر فيه جن الليل وهو إظلامه .وإنما يتعين تصوير وقوع ما ذكر في مثل هذه الليلة من الشهر ، والقمر بدر ، والشمس في الدرجة الخامسة من برج الثور ، إذا تعين أنه لا يجوز وصف القمر والشمس بالبزوغ إلا في أول طلوعهما من وراء أفق القطر كله ، وقد يقال إن هذا غير متعين بالوصف وإنه يجوز أن يقال:رأيت القمر بازغا ولو بعد طلوعه بساعات كما يقال:رأيت ناب البعير بازغا بعد طلوعه بأيام .
ثم إن البزوغ والغروب منهما ما هو حقيقي عرفا وما هو نسبي ، فمن كان في مكان مطمئن أو محاط بالبنيان والشجر يبزغ عليه القمر والشمس بعد بزوغها في أفق قطره ، ويغربان عنه قبل غروبهما عن ذلك الأفق ، وقد يكون في مكان يحجب مشرقه ما ذكر دون مغربه وبالعكس فيختلف البزوغ والغروب باختلاف ذلك .وبهذا يتسع مجال احتمال وقوع ما ذكر في ليلة واحدة وصبيحتها بغير تكلف .والكلام في الآيات مرتب على رؤية الكوكب رؤية غير مقيدة بحال ولا وصف وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغهما ، فالأول يصدق برؤيته قبيل الغروب في أول جنون الليل ، والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي .وقد غفل عن هذه الدقة في تعبير التنزيل من زعم أن رؤية ما ذكر لا يتصور وقوعه في ليلة واحدة وصبيحتها ، ومن فرض لذلك وجود حال في ذلك المكان الخالي من الجبال .
{ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 )} أي فلما أفل القمر كالكوكب ، وهو أكبر منه منظرا وأبهى نورا في الأرض ، قال مسمعا من حوله من قومه:لئن لم يهدني ربي الذي خلقني إلى العبادة التي ترضيه بإعلام خاص من لدنه لأكونن من القوم الضالين عما يجب أن يعبد به فيتبعون فيه أهواءهم واجتهادهم فلا يكونون عابدين له بما يرضيه ولا يقتضي أن كل ضال يعبد الأصنام أو الكواكب بل هذا تعريض آخر بضلال قومه يقرب من التصريح وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي .
قال ابن المنير في الانتصاف:والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله «لا أحب الآفلين » وإنما ترقى في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا يفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره ، والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك بين ، ثم قيام الحجة عليهم ، وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود اه وذلك قوله عز وجل:{ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي} .