/م74
وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال فقوله عز وجل:{ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا} .الخ قال الراغب أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه وأجن عليه فجنه ستره وأجنه جعل له ما يجنه كقولك قبرته وأقبرته وسقيته وأسقيته ، وجن عليه كذا ستر عليه اه ومنه الجن والجنة بالكسر والجنة بالضم وهي الستر يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرهما ، والجنة بالفتح وهي البستان الذي يستر أرضه من الشمس .والكوكب والكوكبة واحد الكواكب وهي النجوم .والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها والعرب تطلقه على الزمرة كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا ، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم والعامة تقول نجمة .
والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا ، كان من أول أمر في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل ، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض ، نظر في ملكوت السماء فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه- يدل على ذلك تنكير الكوكب- وقد روي عن ابن عباس أنه المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والروم ، وكان قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة ، وعن قتادة أنه الزهرة .فماذا قال لما رآه ؟{ قال هذا ربي} أي مولاي ومدير أمر ، قيل إنه قال ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه ، وقيل في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته عليه الصلاة والسلام لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته عل بطلان عبادتها ، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها ، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها .
ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم نمرود بن كنعان أن يقتله إذا كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ويكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا ، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر وفي الشهر كما يشب غيره في سنة وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض- وذكر رؤيته للكوكب فالقمر فالشمس ...ولا شك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة وأن ابن إسحاق أخذها عن بعض اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم فتبطل ثقة يهود وغيرها بهم .وروى نحوه أبو حاتم عن السدي .والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث واسمه محمد بن مروان .
وأما ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من تفسير « هذا ربي » بالعبادة فلا يصح وهو من مراسيل علي بن طلحة مولى بني العباس وقد روى عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره وقال فيه أحمد بن حنبل:له أشياء منكرات .وقال الحافظ في تهذيب التهذيب:صدوق يخطئ .ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم وقد لينه ابن معين وقال أبو حاتم لا يحتج به .ولم يرضه البخاري ولا ابن القطان ، فكيف يؤخذ بروايته عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمان كان في صغره مشركا ؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح .
ومن العجيب أن ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه وهو الذي جزم به الجمهور من كان مناظرا لقومه فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم ، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها ، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كر عليه بالنقض ، بانيا دليله على قاعدة الحسن ونظر العقل ، وقيل إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته ، أي أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده ؟ وقيل أراد:هذا ربي بزعمكم ، أو إنكم تقولون هذا ربي وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس ، ولا يقبله الذوق .
أما ابن جرير فاحتج أولا بالرواية وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل عليه الصلاة والسلام ولو في الصغر على أنها مطلقة- وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر ، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر .وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام الرازي في تعدادها وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر .وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام- ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها- ومن تعليل الإراءة بما تقدم- ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم .
{ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 )} أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب ، قال لا أحب من يغيب ويحتجب ، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب ، وأشار بقوله الآفلين إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل ، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ، ويوحشه فقد جماله وكماله ، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة ، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار ، فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار ، والاحتجاب عن الأبصار ، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال ، وفنون الجنون والخبال ، وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح ، فلا يجوز أن يكون إلا للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يأفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه ، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه{ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [ الأنعام:103] ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير ، وسلطانه في التصرف والتدبير ، وما كان ليخفى على الخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان ، وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان ، وهو « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك »{[962]} فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها ، ويخفى حالهم عليها ؟
وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث أو الإمكان ، وهو تفسير للشيء بما قد يباينه فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم وفي استقرار الحمل وكذا اللقاح في الرحم فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني وهو الغيوب والخفاء ، وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب .وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا ، وهو غلط كسابقه فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها ، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك- وهو الصحيح- أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي ، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليست من سبب أفولها المشاهد في شيء .
وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم ، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم ، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك{ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها ، وبقدمها مع حركتها ، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء ، وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد .
وقد كان الزمخشري من أولئك النظار وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس:« فإن قلت » لم احتج عليهم بالأفول دون البزوع وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ « قلت » الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب اه وقال ابن المنير إنه من عيون نكته ووجوه حسناته ، اه والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا ، لا برهانا نظريا جليا ، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد ، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية بل بني عليه القول بها ، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا .
/خ79