/م74
{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه وهو أنهم كانوا على ضلال بين في عبادتهم للأصنام كنا نريه المرة بعد المرة ملكوت السماوات والأرض ، على هذه الطريقة التي يعرف بها الحق ، فهي رؤية بصرية ، تتبعها رؤية البصيرة العقلية ، وإنما قال نريه دون أريناه لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آيه تعالى في ذلك الملكوت العظيم كما يعلم من التعليل الآتي ، والتفصيل المترتب على هذا الإجمال في الآيات .والملكوت المملكة أو الملك العظيم والعز والسلطان ، وإطلاق الصوفية إياه على عالم الغيب اصطلاح قال في اللسان:وملك الله تعالى وملكوته سلطانه وعظمته ، ولفلان ملكوت العراق أي عزه وسلطانه وملكه .عن اللحياني .والملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة وتقال للملكوت ملكوة ( كترقوة ) اه وقال الراغب والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت اه وصرح بعضهم بأن هذه التاء للمبالغة على قاعدة زيادة المبنى لزيادة المعنى ، فالملكوت الملك العظيم والرحموة الرحمة الواسعة والرهبوت الرهبة الشديدة .
وروي عن عكرمة أن كلمة ملكوت نبطية وأصلها بلسانهم ملكوتا .وفي كتب اللغة أن النبط والأنباط جيل من الناس يسكنون البطائح وغيرها من سواد العراق ، فهم بقايا إبراهيم في وطنه الأصلي إذا كانت سلسلة نسبهم محفوظة ، ويقول المؤرخون إنهم من بقايا العمالقة وإنهم هاجروا من العراق بعد سقوط دولة الحمورابيين وتفرقوا في جزيرة العرب ثم أنشئوا دولة الشمال منها .وقد روي عن علي وابن عباس ( رض ) أن كلا منهما قال:إننا نبط من كوثى .وكوثى بلد إبراهيم صلى الله على وآله وسلم كما يحفظ عن العرب ، ومراد الحبرين أن بني هاشم من ذرية إبراهيم وأن النبط من قومه ، وفيه إنكار احتقارهم لنسبهم أو ضعف لغتهم ، وقيل إن مرادهما به التواضع وذم التفاخر بالأنساب .وروي عن ابن عباس أن المراد بملكوت السماوات والأرض خلقهما أي كقوله تعالى:{ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [ الأعراف:185] وعن مجاهد أنه آياتهما ، وعنهما وعن قتادة أنه الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار ، وعن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أراه ما وراء مسارح الأبصار من السماوات والأرض حتى انتهى بصره إلى العرش ، وزاد بعضهم أنه أراه خفايا أعمال العباد ومعاصيهم .
وليس لهذه الأقوال الأخيرة حجة من الحديث المرفوع وإنما استنبطوها فيما يظهر من إسناد الإراءة إلى الله عز وجل ، فإنه يدل على عناية خاصة ، واختار ابن جرير مما رواه من تلك الأقوال أنه تعالى أراه من ملكوت السماوات والأرض ما فيهما من الشمس والقمر والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما وجلى له بواطن الأمور وظواهرها ، ويتحقق ذلك بهدايته إياه إلى وجوه الحجة فيها على وحدانيته تعالى وقدرته ، وعلمه وحكمته ، وفضله ورحمته ، ويدل على ذلك تعليل الإراءة ، وما يترتب عليها من إقامة الحجة .
أما التعليل فقوله تعالى:{ وليكون من الموقنين ( 75 )} قيل إن المعنى ولأجل أن يكون من أهل اليقين الراسخين فيه أريناه ما أرينا ، وبصرناه من أسرار الملكوت ما بصرنا ، وقيل إن هذا عطف على تعليل حذف لتغوص الأذهان على استخراجه من قرائن الحال ، وأسلوب المقال ، أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا ، وحكمنا في تدبير ملكنا ، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا وألوهيتنا ، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين ، وهو من الإيجاز البديع .واليقين في اللغة الاعتقاد الجازم المبني على الإمارات والدلائل والاستنباط دون الحس والضرورة وقال الراغب هو سكون الفهم مع ثبات الحكم وإنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية .وبذلك جمع إبراهيم بين العلم النظري والعلم اللدني .