وأما قوله تعالى:{ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( 84 ) وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( 85 ) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين 86} فهو عطف على « نوحا هدينا » أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ .وقد جزم ابن جرير شيخ المفسرين بأن الضمير في ذريته لنوح وتابعه على ذلك بعض المفسرين واحتجوا بأنه أقرب في الذكر وبأن لوطا ويونس ليسا من ذرية إبراهيم ، وزاد بعضهم أن ولد المرء لا يعد من ذريته فلا يقال أن إسماعيل من ذرية إبراهيم .وهذا القول لا يصلح لتصريح أهل اللغة بأن الذرية النسل مطلقا .
وأخذ بعضهم من قوله تعالى:{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} أن الذرية تطلق على الأصول كما تطلق على الفروع ، وذلك بناء على أن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح .وقال بعضهم إن الذرية هنا للفروع المقدرة في أصلاب الأصول ، والقول الآخر في الفلك المشحون ، أنه سفين التجارة التي كان المخاطبون يرسلون فيها أولادهم يتجرون .
وذهب سائر المفسرين إلى أن الضمير عائد إلى إبراهيم لأن الكلام في شأنه ، وما أتاه الله تعالى من فضله ، وإنما ذكر نوحا لأنه جده ، فهو لبيان نعم الله عليه في أفضل أصوله ، تمهيدا لبيان نعمه عليه في الكثير من فروعه ، ويزاد على ذلك أن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا ، منفردا ومجتمعا ، كما قال تعالى في سورة الحديد:{ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [ الحديد:26] وقال بعض هؤلاء:إن يونس من ذرية إبراهيم ، وإن لوطا ابن أخيه وقد هاجر معه فهو يدخل في ذريته بطريق التغليب ، ويعد منها بطريق التجوز الذي يسمون به العم أبا ، وتقدم بيان هذا التجوز في الكلام على أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في فاتحة تفسير هذا السياق .
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة ، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم .
فالقسم الأول:داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة ، والحكم والسيادة ، مع النبوة والرسالة ، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين ، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا ، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا ، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر ، كما ابتلى بالسراء فشكر ، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين ، ولكنهما لم يكونا ملكين ، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية ، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا ، وقد يكون على طريق الترقي في الدين ، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا ، ودونهما أيوب ويوسف ، ودونهما موسى وهارون ، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء ، والصبر في الضراء ، والله أعلم .
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء{ وكذلك نجزي المحسنين} أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق ، وهداية الدين إرشاد الخلق ، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف{ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} [ يوسف:22] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا ، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة ، ومنهم من يرجىء جزاءه إلى الآخرة .
والقسم الثاني:زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها ، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها ، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين ، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم ، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق .
والقسم الثالث:إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول ، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني ، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين ، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه ، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق ، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم ، متفاضلين في أنفسهم ، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له ، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره ، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى ، صلوات الله عليهم أجمعين .وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا ، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور .والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يجب ويرضى عز وجل .
وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به في كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه ، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه ، وقد قال صاحب روح المعاني وهو أفضل المفسرين المتأخرين ، وناهيك بسعة اطلاعه على أقوال الأولين والآخرين:« ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام ، عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ، ومتأخر بالزمان على متقدم به ، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى:{ وكذلك نجزي} الخ وثانيا بقوله سبحانه:{ كل من الصالحين} والله تعالى أعلم بأسرار كلامه » اه .ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء ، وقد يؤتي مفضولا ما لا يؤتي أفضل الفضلاء .
ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن ( اليمن ) القطر المعروف .وقرأه حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين أن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر .وقيل إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس ( إيليا ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة .
وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف .ذكر ذلك الآلوسي وقال:وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم ، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، ذكر أن موسى الكاظم رضي الله عنه احتج بالآية على الرشيد ، ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآيات المباهلة .قال وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول اه .
وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا « أن ابني هذا سيد »{[965]} يعني الحسن ، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهم السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته .
واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين على تفضيل الأنبياء على الملائكة بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى ، وفيه نظر فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس ، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة ، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط:{ أولم ننهك على العالمين} [ الحجر:70] ، وقوله في إبراهيم:{ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [ الأنبياء:71] وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب .
/خ86