{ وما تنقم منّا إلّا أن آمنّا بآيات ربنا لما جاءتنا} قال الراغب:نقمت الشيء ونقمته"أي من بابي فرح وضرب "إذا أنكرته أما باللسان وأما بالعقوبة قال تعالى:{ وما نقموا إلا أن أغناهم الله} [ التوبة:74]{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله} [ البروج:8]{ هل تنقمون منا} [ المائدة:59] الآية والنقمة العقوبة قال:{ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم} [ الأعراف:136] الخ وتفسيره هذا لنقم أدق وأشمل من قول الزمخشري في الأساس:ونقمت كذا –أنكرته وعبته .فإنه لم يذكر إلا القولي منه وقد استشهد له بقوله تعالى:{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} [ البروج:8] وهو في أصحاب الأخدود وكان النقم منهم بالفعل لا بالقول ، فسبحان من لا ينسى ولا يغفل .
وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول وهو الاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه .والظاهر أنه نفذ الوعيد بالانتقام بالفعل واستنبط بعض المفسرين من قوله تعالى لموسى وهارون{ أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [ القصص:35] أن فرعون لم يقدر على تنفيذ الوعيد فيهم .وأجيب عن هذا بأن المراد الغلبة بالحجة والبرهان وفي عاقبة الأمر ونهايته وإلا لم يقتل أحد من أتباع الرسل عليهم السلام ، وهو صريح قوله تعالى في أول هذه القصة الذي ذكرنا أنه بيان لنتيجتها ووجه العبرة فيها{ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} [ الأعراف:103] يعني فرعون وملأه ، ويؤيده ما ورد في معناه من الآيات الكثيرة كقوله تعالى حكاية عن شعيب في قصته التي مرت في هذه السورة أيضا{ وانظر كيف كان عاقبة المفسدين} [ الأعراف:103] وقوله قبله في قصة لوط منها{ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} [ الأعراف:84] وقوله تعالى في مكذبي الرسل عامة بعد ذكر تكذيب قوم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم{ كذلك كذّب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} [ يونس:39] ويجوز أن يراد بمن اتبع موسى وهارون قومهما خاصة وهم الذين بشرهم موسى بأن العاقبة لهم بعد وعيد فرعون لهم عقب خبر السحرة وهو ما تراه في الآية الثانية بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها .وهذه العاقبة قد بينها الله تعالى بقوله:{ فأخذناه} – يعني فرعون –{ وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} [ القصص:40] .
وقد ختم تعالى ما قصه هنا من كلام السحرة بهذا الدعاء فنذكره تالين داعين{ ربّنا أفرغ علينا صبرا وتوفّنا مسلمين} أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفيضه وتفرغه علينا إفراغا بتثبيتك إيانا على الإيمان وتأييدنا بروحك فيه كما يفرغ الماء من القرب ، حتى لا يبقى في قلوبنا شيئا من خوف غيرك ، ولا من الرجاء فيما سوى فضلك ونوالك .وتوفنا إليك حال كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك ، غير مفتونين بتهديد فرعون ، وغير مطيعين له في قول ولا فعل .جمعوا بدعائهم هذا بين كمال الإيمان والإسلام .
يدل على ما قررناه من المبالغة في طلب كمال الصبر –تنكيره والتعبير عن إيتائه بالإفراغ وهو صب الماء الكثير من الدلو ونحوه وأما تصويرنا لحصول ذلك بقوة الإيمان فمأخذه من العقل والتجارب أن الصبر من صفات النفس وهو عبارة عن قوة فيها على احتمال الآلام والمكاره بغير تبرم ولا حرج يحملها على ما لا ينبغي من ترك الحق أو اجتراح الباطل ، ولا شيء كالإيمان بالله والخوف منه والرجاء فيه يقوي هذه الصفة في النفس ، ومأخذه من النقل آيات كقوله تعالى في بيان المؤمنين الذين عملوا الصالحات فوجبت لهم الجنة{ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} [ النحل:42] وقوله فيهم{ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [ العصر:3] ومما يناسب المقام قوله:{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران:175] .
ولدينا من نقول التاريخ القديم والحديث ما يؤيد ذلك وقد صرح الذين كتبوا أخبار الحروب الأخيرة بعللها وفلسفتها أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الملل أعظم شجاعة وأشد صبرا على مشاق الحرب من غيرهم ، ولذلك يحرص أوسع الناس علما بسنن الخلق ، وأشدهم عناية بفنون الحرب ، - كالشعب الألماني – بالمحافظة على الدين في جيشهم .وللبرنس بسمارك مؤسس وحدتهم ووزيرهم الأعظم بل أكبر ساسة أوروبة في عصره كلمة في هذا المعنى أثبتناها في المجلد الأول من المنار من ترجمة الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن كتاب ( وقائع بسمارك ومذكراته ) التي نشرها كاتم سره مسيو بوش بعد موته نكتفي منه هنا بقوله: "جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه:كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب ، ولو لم يكن هنالك أمل في الجزاء والمكافأة ( أي في الدنيا ) ذلك لما استكنّ في الضمائر من بقايا الإيمان –ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويموت وأن لم يكن قائده يراه .
فقال بعض المرتابين أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس:ليس هذا من قبيل الملاحظات ، وإنما هو شعور ووجدان ، هو بوادر تسبق الفكر ، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها ، ولو لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان ، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات ، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه – إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي ، واعتقاد باله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟ ".
ثم أطال في ذلك بأسلوب آخر صرح فيه بأنه لولا عقيدته الدينية لما خدم سلطانه وعاهله ( الإمبراطور ) ساعة من الزمان الخ ما قاله ، فيراجع في محله{[1229]} .