{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين} الدعوى في اللغة اسم لما يدعيه الإنسان ، والادعاء نفسه ، والدعاء بمعانيه ، والقول مطلقا ، ففي المصباح:ودعوى فلان كذا أي قوله اه ومعنى الآية على هذا:فما كان قولهم وعلى ما قبله:فما كانت غاية ما يدعونه من الدين وزعمهم فيه أنهم على الحق أو ما كانوا يدعونه من الرسل على من التكذيب وإرادة التفضل عليهم إلا الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين أنفسهم فيما كانوا عليه والشهادة ببطلانه .وفي التقدير الأول الإخبار بنوع من القول عن جنسه وهو غير الإخبار بالشيء عن نفسه ، والأول صحيح فصيح وإن اتحدت المادة كقوله تعالى:{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لما ذنوبنا} ( آل عمران 147 ) فكيف إذا اختلفت كما هنا .
والعبرة في الآية أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب ، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب ، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم ، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب ، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له ، مثال ذلك أن ما يتولد من شرب الخمر من الأمراض والآلام لا يعرف أكثر السكارى منه غير ما يعقب الشرب من صداع وغثيان وهو مما يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه ، وأما ما يولده السكر من أمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي وما يترتب عليه من ضعف النسل واستعداده للأمراض وانقطاعه أحيانا و غير ذلك من الأمراض الجسدية والعصبية ( العقلية ) فهي تحصل ببطء وقلما يعلم غير الأطباء أنها من تأثير السكر ، ثم قلما يفيد العلم بها بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة أن تحمل السكور على التوبة لأن داء الخمار يزمن وحب السكر يضعف الإرادة ومضار الزنا الجسدية أخفى من مضار الخمر والميسر ، ومفاسده الاجتماعية ، أخفى من مضاره الجسدية فما كل أحد يفطن لها .
ويا ليت كل من علم بضرر ذنبه بعد وقوعه يرجع عنه ويتركه ويتوب إلى الله تعالى منه ، ولا يكتفي بالاعتراف بظلمه ، ولا بالإقرار بذنبه فإن هذا لا فائدة له فيه لا في دنياه ولا في دينه ، وإذا كان الراسخ في الفسق لا يتوب من ذنب وقع عليه ضرره وعلم به ، فكيف يتوب من ذنب لم يصبه منه ضرر أو أصابه من حيث لا يدري به ؟ إنما تسهل التوبة على المؤمنين الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، وإلا فهي لأولي العزائم القوية الذين تقهر إرادتهم بشهواتهم وهم الأقلون .
وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد ، فإذا ظهر الظلم واختلال النظام وفشا الترف وما يلزمه من الفسق والفجور في أمة من الأمم تمرض أخلاقها فتسوء أعمالها وتنحل قواها ، ويفسد أمرها وتضعف منعتها ، ويتمزق نسيج وحدتها ، حتى تحسب جميعا وهي شتى فيغري ذلك بعض الأمم القوية بها ، فتستولي عليها ، وتستأثر بخيرات بلادها وتجعل أعزة أهلها أذلة .فهذه سنة مطردة في الأمم على تفاوت أمزجتها وقواها ، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع عقوبتها ولا ينفعها بعده أن يقول العارفون:يا ويلنا إنا كنا ظالمين .على أنه قد يعمها الجهل حتى لا تشعر بأن ما حل بها ، إنما كان بما كسبت أيديها ، فترضى باستذلال الأجنبي ، كما رضيت من قبل بما كان سببا له من الظلم الوطني فينطبق عليها قولنا في المقصورة:
من ساسه الظلم بسوط بأسه *** هان عليه الذل من حيث أتى
ومن يهن هان عليه قومه *** وعرضه ودينه الذي ارتضى
وقد تنقرض بما يعقبه الفسق والذل من قلة النسل ولاسيما فشو الزنا والسكر ، أو تبقى منها بقية مدغمة في الكثرة الغالبة لا أثر لها تعد به أمة .وقد تتوالى عليها العقوبات حتى تضيق بها ذرعا فتبحث عن أسبابها فلا تجدها بعد طول البحث إلا في أنفسها وتعلم صدق قوله تعالى:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} ( الشورى 30 ) ثم تبحث عن العلاج فتجده في قوله تعالى:{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ( الرعد 11 ) وإنما يكون التغيير بالتوبة النصوح ، والعمل الذي تصلح به القلوب فتصلح الأمور ، كما قال العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء بهم:اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة .خلافا للحشوية الذين يستدلون به على أن البلاء إنما يرتفع كرامة للصالحين الذين يتوسل بهم المذنبون المفسدون .ومتى علمت الأمة داءها وعلاجه فلا تعدم الوسائل له .
فلينظر القارئ أين مكان الشعوب الإسلامية من هذه العبرة ، والشعور بعقوبة الجناية والحاجة إلى علاج التوبة ، وقد ثلت عروشها ، وخوت صروح عظمتها على عروشها ، وكانت أجدر الشعوب بمعرفة سنن الله في هلاك الأمم واتقائها وأسباب حفظ الدول وبقائها فقد أرشدها إليه القرآن ، ولكن أين هي من هداية القرآن ، وقد ترك تذكيرها به العلماء فهجره الدهماء ، وجهل أحكامه وحكمه الملوك والأمراء ، ثم نبتت فيها نابتة لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان أقنعهم أساتذتهم أعداء الإسلام ، بأن لا سبب لهبوطها وسقوطها إلا اتباع القرآن ، فأضلوهم السبيل ، ولفتوهم عن الدليل ، فذنب هؤلاء أنهم يجهلونه ، وذنب أولئك أنهم لا يقيمونه .هؤلاء مقلدة للأجانب الطامعين الخادعين ، وأولئك مقلدة لشيوخ الحشوية الجامدين .فمتى تنتشر دعوة المصلحين أولي الاستقلال فتجمع الكلمة بما أوتيت من الحكمة والاعتدال على قول الكبير المتعال{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} ( الرعد 11 ) .