/م6
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين} عطف هذا على ما قبله بالفاء لأنه يعقبه ويجيء بعده إذ كان ذلك العذاب المعبر عنه بالبأس آخر أمرهم في الدنيا وقيل إن الفاء هنا هي التي يسمونها الفصيحة .وقد أكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد لأن المخاطبين من العرب في أول الدعوة كانوا ينكرون البعث والجزاء .ولتأكيد الخبر تأثير في الأنفس ولاسيما خبر المشهور بالأمانة والصدق كالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين .والمراد:أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل يسأل تعالى كل فرد منهم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته وبماذا أجابوهم وما عملوا من إيمان وكفر ، وخير وشر ويسأل المرسلين عن التبليغ منهم ، والإجابة من أقوامهم .
بين هذا الإجمال في آيات منها قوله تعالى في سورة الأنعام:{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ( الأنعام 126 ) وفي سورة القصص{ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} ( القصص 56 ) وفي سورة العنكبوت{ وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون} ( العنكبوت 12 ) ومثله في سورة النحل:{ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} ( النحل 56 ) وهو ما ابتدعوه في الدين كجعلهم لمعبوداتهم نصيبا مما رزقوا من الحرث والأنعام يتقربون إليهم بها بنذر أو غيره ويتقربون بهم إلى الله كما تقدم في سورة الأنعام ومنه ما ينذره القبوريون لأوليائهم ، وأعم منه قوله تعالى في النحل أيضا{ ولتسألن عما كنتم تعملون} ( النحل 93 ) وهو خطاب لجميع الناس ، ومثله في التأكيد والعموم قوله في سورة الحجر{ فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون} ( الحجر 9 ) ومنه في السؤال عن المشاعر الظاهرة والباطنة{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ( الإسراء 36 ) وقال تعالى في سؤال الرسل{ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} المائدة 112 ) وتقدم تفسيره في الجزء السابع .
قال ابن عباس في تفسير الآية:نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا .ونحوه عن سفيان الثوري وقيل إن الذين أرسل إليهم هم الأنبياء المرسلون والمرسلين هم الملائكة الذين نزلوا عليهم بالوحي وفي رواية جبريل خاصة ، وهو خلاف الظاهر فإن الرسل يسألون ليكونوا شهداء على أقوامهم كما قال تعالى:{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} ( النساء 51 ) ولا حاجة إلى شهادة الملائكة على الرسل لئلا ينكروا الرسالة فما هي ذنب يتوقع إنكاره منهم لو لم يكونوا معصومين من ذلك .وفي السؤال العام وما يسأل عنه الناس أحاديث سيأتي بعضها .
فإن قيل هذه الآيات تثبت السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات فما معنى قوله تعالى في سورة القصص{ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ( القصص 78 ) وفي سورة الرحمن{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ( الرحمان:39 ) قلنا قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام إلى بعضها وهو أن للقيامة مواقف متعددة يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض .والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره إذ قال بعدها{ يعرف المجرمون بسيماهم} ( وهو استئناف بياني كأنه قيل لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال:{ يعرف المجرمون بسيماهم} ( ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن ابن عباس كالأول ، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه ، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه وإنما يسأله لم عمل كذا أي بعد أن يعرف به ، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل:{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم} .