{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ4 فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ 5}
كانت الآية الأولى من السورة في بيان إنزال الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به كل الناس وذكرى وموعظة لأهل الإيمان والآية الثانية استئناف بياني لما يبدأ به من التبليغ وهو أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وأن لا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع الخاص بالرب تعالى ولما كان الإنذار تعليما مقرونا بالتخويف من عاقبة المخالفة قفى على هذه القاعدة الأولى التي هي أم القواعد لأصول الدين بالتخويف من عاقبة المخالفة لها ولما يتلوها من أصول الدين وفروعه فبدأ في هاتين الآيتين بالتخويف من عذاب الدنيا فقال:
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُون}"كم "خبرية تفيد الكثرة ، والقرية تطلق على الأمة قال الراغب:القرية للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ( أي معا ) ويستعمل لكل منهما ، قال تعالى:{{ واسأل القرية} ( يوسف 82 ) قال كثير من المفسرين معناه أهل القرية وقال بعضهم بل القرية ههنا القوم أنفسهم اه من غير تقدير مضاف .والذين يقولون بالتقدير يرون أنه لا حاجة إليه هنا لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها ولكنهم يقدرون المضاف في قوله:{ فجاءها بأسنا} فيقولون:جاء أهلها بأسنا بدليل وصفهم بالبيات والقيلولة والمدينة لا تبيت ولا تقيل ، والبيات الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به فيه على غفلة منه فهو اسم للتبييت ، وهو يشمل ما يدبره المرء أو ينويه ليلا ، ومنه تبييت نية الصيام .وقيل يأتي مصدرا لبات يبيت إذا أدركه الليل ، والبأس الشدة والقوة والعذاب الشديد وهو المراد هنا ، والقائلون هم الذين يقيلون أي ينامون للاستراحة وسط النهار ، وقيل يستريحون وإن لم يناموا يقال قال يقيل قيلا وقيلولة .
والمعنى وكثيرا من القرى أهلكناها لعصيان رسلها فيما جاءوها به من عند ربها فكان هلاكها على ضربين بأن جاء بعضهم بأسنا حال كونهم مبيتين أو بائتين ليلا كقوم لوط ، وجاء بعضهم وهم قائلون آمنون نهارا كقوم شعيب .والوقتان وقتا دعة واستراحة ففيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الاستحقاق له الذي هو مظنة الدوام وقد يعذر بالغفلة قبل مجيء النذير وأما بعده فلا عذر ولا عذير ، وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم ، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم:{ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} ( سبأ 35 ) وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن ، أو سنن الله في نوع الإنسان ، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلا على الهلاك ، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب .
وقد استشكل بعض المفسرين من الآية ما لا إشكال فيه إذ ظنوا أن عطف جاءهم على"أهلكنا "بالفاء يفيد أن مجيء البأس وقع عقب الإهلاك وهو محال لأنه سببه ، غافلين عن كونه بيانا تفصيليا لنوعين منه أحدهما ليلي والآخر نهاري كما بيناه آنفا ، وتفصى بعضهم كالزمخشري منه بأن المراد بالإهلاك إرادته كما أن المراد من قوله:{ إذا قمتم إلى الصلاة} ( المائدة 6 ) إذا أردتم القيام إليها .
وفي الآية من مباحث اللغة والبلاغة أن قوله تعالى:{ أو هم قائلون} جملة حالية حذفت منها واو الحال لاستثقال الجمع بينها وبين واو العطف والأصل:أو وهم قائلون .ولم أر أحدا تعرض لنكتة الجمع بين الحال المفردة وجملة الحال هنا والظاهر أن المقام مقام الإفراد ، لا كقوله تعالى:{ لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا} ( النساء 43 ) حيث انفردنا ببيان فرق وجيه بين الحالين هنالك يقتضيه المعنى وينطبق على ما حققه الإمام عبد القاهر في الفرق بينهما ، ولا يأتي مثله هنا لأن الفرق بين الحالين خاص بما كانت الحال فيه وصفا لفاعل العامل فيها كآية النساء ومثل قولك "نذرت أن أعتكف صائما أو وأنا صائم ، وهي هنا وصف لمفعوله فتأمل .وقد بحث المفسرون الذين يعنون بالإعراب في مسألة الواو في الجملة الفعلية هل هي لام العطف أو غيرها ومتى تجب في الجملة الحالية هي والضمير معا ومتى يجب أحدهما ، وهي مباحث لفظية نعدوها لأنها قلما تفيد في المعاني ونكت البلاغة فائدة تذكر .