يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن ، وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى [ إلى بيته الحرام] ، كما قال تعالى:( لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد [ ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا] ) الآية:[ المائدة:2] .
قال ابن جريج:قال عطاء في قوله:( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ) ، قال:البقرة ، والبعير . وكذا روي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري . وقال مجاهد:إنما البدن من الإبل .
قلت:أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة ، على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث .
ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به الحديث عند مسلم ، من رواية جابر بن عبد الله [ وغيره] ، قال:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي ، البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة .
[ وقال إسحاق ابن راهويه وغيره:بل تجزئ البقرة عن سبعة ، والبعير عن عشرة] . وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وغيرهما ، فالله أعلم .
وقوله:( لكم فيها خير ) ، أي:ثواب في الدار الآخرة .
وعن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من هراقة دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان ، قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا ". رواه ابن ماجه ، والترمذي وحسنه .
وقال سفيان الثوري:كان أبو حاتم يستدين ويسوق البدن ، فقيل له:تستدين وتسوق البدن؟ فقال:إني سمعت الله يقول:( لكم فيها خير )
وعن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد ". رواه الدارقطني في سننه .
وقال مجاهد:( لكم فيها خير ) قال:أجر ومنافع .
وقال إبراهيم النخعي:يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها .
وقوله:( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) وعن [ المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن] جابر بن عبد الله قال:صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال:"بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن عباس ، عن جابر قال:ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما:"وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ، اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته ". ثم سمى الله وكبر وذبح .
وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول:"اللهم هذا عن أمتي جميعها ، من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ". ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم يقول:"هذا عن محمد وآل محمد "فيطعمها جميعا المساكين ، [ ويأكل] هو وأهله منهما .
رواه أحمد ، وابن ماجه .
وقال الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس في قوله:( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) ، قال:قيام على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرى ، يقول:"بسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك ". وكذلك روى مجاهد ، وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا .
وقال ليث . عن مجاهد:إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث . وروى ابن أبي نجيح ، عنه ، نحوه .
وقال الضحاك:تعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث .
وفي الصحيحين عن ابن عمر:أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها ، فقال:ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .
وعن جابر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى ، قائمة على ما بقي من قوائمها . رواه أبو داود .
وقال ابن لهيعة:حدثني عطاء بن دينار ، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك:قف من شقها الأيمن ، وانحر من شقها الأيسر .
وفي صحيح مسلم ، عن جابر ، في صفة حجة الوداع ، قال فيه:فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة ، جعل يطعنها بحربة في يده .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن قتادة قال:في حرف ابن مسعود:"صوافن "، أي:معقلة قياما .
وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد:من قرأها "صوافن "قال:معقولة . ومن قرأها ( صواف ) قال:تصف بين يديها .
وقال طاوس ، والحسن ، وغيرهما:"فاذكروا اسم الله عليها صوافي "يعني:خالصة لله عز وجل . وكذا رواه مالك ، عن الزهري .
وقال عبد الرحمن بن زيد:"صوافي ":ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم .
وقوله:( فإذا وجبت جنوبها ) قال:ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:يعني:سقطت إلى الأرض .
وهو رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:( فإذا وجبت جنوبها ) يعني:نحرت .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( فإذا وجبت جنوبها ) يعني:ماتت .
وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها . وقد جاء في حديث مرفوع:"ولا تعجلوا النفوس أن تزهق ". وقد رواه الثوري في جامعه ، عن أيوب ، عن يحيى ابن أبي كثير ، عن فرافصة الحنفي ، عن عمر بن الخطاب; أنه قال ذلك ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ".
وعن أبي واقد الليثي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما قطع من البهيمة وهي حية ، فهو ميتة ".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه .
وقوله:( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) قال بعض السلف:قوله:( فكلوا منها ) أمر إباحة .
وقال مالك:يستحب ذلك . وقال غيره:يجب . وهو وجه لبعض الشافعية . واختلف في المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي ، عن ابن عباس:القانع:المستغني بما أعطيته ، وهو في بيته . والمعتر:الذي يتعرض لك ، ويلم بك أن تعطيه من اللحم ، ولا يسأل . وكذا قال مجاهد ، ومحمد بن كعب القرظي .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:القانع:المتعفف . والمعتر:السائل . وهذا قول قتادة ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد في رواية عنه .
وقال ابن عباس ، وزيد بن أسلم وعكرمة ، والحسن البصري ، وابن الكلبي ، ومقاتل بن حيان ، ومالك بن أنس:القانع:هو الذي يقنع إليك ويسألك . والمعتر:الذي يعتريك ، يتضرع ولا يسألك . وهذا لفظ الحسن .
وقال سعيد بن جبير:القانع:هو السائل ، ثم قال:أما سمعت قول الشماخ .
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره ، أعف من القنوع
قال:يعني من السؤال ، وبه قال ابن زيد .
وقال زيد بن أسلم:القانع:المسكين الذي يطوف . والمعتر:الصديق والضعيف الذي يزور . وهو رواية عن عبد الله بن زيد أيضا .
وعن مجاهد أيضا:القانع:جارك الغني [ الذي يبصر ما يدخل بيتك] والمعتر:الذي يعتريك من الناس .
وعنه:أن القانع:هو الطامع . والمعتر:هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير .
وعن عكرمة نحوه ، وعنه القانع:أهل مكة .
واختار ابن جرير أن القانع:هو السائل; لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعترار ، وهو:الذي يتعرض لأكل اللحم .
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء:فثلث لصاحبها يأكله [ منها] ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على الفقراء; لأنه تعالى قال:( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) . وفي الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس:"إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا لكم "وفي رواية:"فكلوا وادخروا وتصدقو ا ". وفي رواية:"فكلوا وأطعموا وتصدقو ا ".
والقول الثاني:إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله في الآية المتقدمة:( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) [ الحج:28] ، ولقوله في الحديث:"فكلوا وادخروا وتصدقوا ".
فإن أكل الكل فقيل:لا يضمن شيئا . وبه قال ابن سريج من الشافعية .
وقال بعضهم:يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها . وقيل:يضمن نصفها . وقيل:ثلثها . وقيل:أدنى جزء منها . وهو المشهور من مذهب الشافعي .
وأما الجلود ، ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي:"فكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، ولا تبيعوها ".
ومن العلماء من رخص [ في ذلك] ، ومنهم من قال:يقاسم الفقراء ثمنها ، والله أعلم .
[ مسألة] .
عن البراء بن عازب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر . فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم [ عجله] لأهله ، ليس من النسك في شيء "أخرجاه .
فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء:إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين . زاد أحمد:وأن يذبح الإمام بعد ذلك ، لما جاء في صحيح مسلم:وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام ".
وقال أبو حنيفة:أما أهل السواد من القرى ونحوهم ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر ، إذ لا صلاة عيد عنده لهم . وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام ، والله أعلم .
ثم قيل:لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده . وقيل:يوم النحر لأهل الأمصار ، لتيسر الأضاحي عندهم ، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه قال سعيد بن جبير . وقيل:يوم النحر ، ويوم بعده للجميع . وقيل:ويومان بعده ، وبه قال أحمد . وقيل:يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي; لحديث جبير بن مطعم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وأيام التشريق كلها ذبح ". رواه أحمد وابن حبان .
وقيل:إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النخعي ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن . وهو قول غريب .
وقوله:( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ):يقول تعالى:من أجل هذا ( سخرناها لكم ) أي:ذللناها لكم ، أي:جعلناها منقادة لكم خاضعة ، إن شئتم ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى:( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون . وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون . ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ) [ يس:71 73] ، وقال في هذه الآية الكريمة:( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون )