قوله تعالى:{فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .
قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية ،وأمر بإطعام البائس الفقير منها .وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها ،وما كان من الإبل ،فهو من البدن بلا خلاف .
واختلفوا في البقرة ،هل هي بدنة ،وقد قدمنا الحديث الصحيح: أن البقرة من البدن ،وقدمنا أيضاً ما يدل على أنها غير بدنة ،وأظهرهما أنها من البدن ،وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي: أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني *** مفاقره أعف من القنوع
يعني أعف من سؤال الناس ،والطمع فيهم ،وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضاً للإعطاء من غير سؤال وطلب ،والله أعلم وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا ،وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى:{كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .قوله كذلك: نعت لمصدر: أي سخرناها أي البدن لكم تسخيراً كذلك: أي مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون: أي ذللناها لكم ،وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب ،وحلب وغير ذلك من المنافع ،ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها ،لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير ،إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه ،ولا متمكن من الانتفاع به .وقوله هنا:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد قدمنا مراراً أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها .اثنان: أحدهما: أنها بمعناها الأصلي ،الذي هو الترجي والتوقع ،وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع ،بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور ،وليس هذا المعنى في حق الله تعالى لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه جل وعلا إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك ،وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب ،وقد قال تعالى لموسى وهارون:{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [ طه: 44] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى ،مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى ،فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق ،لا إلى الخالق جل وعلا .المعنى الثاني: هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم ،قال: كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [ الشعراء: 129] قال: فهي بمعنى: كأنكم تخلدون .وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب .وقد قدمناه موضحاً مراراً وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر:
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف ووثقتم لنا كل موثق
يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف ،وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه ،تستوجب الشكر لقوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فاعلم: أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [ يس: 71-73] وقوله في آية يس: هذه:{أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} كقوله في آية الحج:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريباً:{كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [ الحج: 37] ،وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده ،مراراً بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير التذليل .