قال تعالى:( فلما نسوا ما ذكروا به ) أي:فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة ، ( أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا ) أي:ارتكبوا المعصية ( بعذاب بئيس ) فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين ، وسكت عن الساكتين ; لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم:هل كانوا من الهالكين أو من الناجين ؟ على قولين:
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) [ قال:] هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة ، يقال لها:"أيلة "، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها . فمضى على ذلك ما شاء الله ، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة وقالوا:تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم ؟ فلم يزدادوا إلا غيا وعتوا ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم ، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة:تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب ، ( لم تعظون قوما الله مهلكهم [ أو معذبهم عذابا شديدا] ) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى ؟ فقالوا:( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا:( لم تعظون قوما الله مهلكهم ) والذين قالوا:( معذرة إلى ربكم ) وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة .
وروى العوفي ، عن ابن عباس قريبا من هذا .
وقال حماد بن زيد ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) قال:ما أدري أنجى الذين قالوا:"أتعظون قوما الله مهلكهم "، أم لا ؟ قال:فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا ، فكساني حلة .
قال عبد الرزاق:أخبرنا ابن جريج ، حدثني رجل ، عن عكرمة قال:جئت ابن عباس يوما وهو يبكي ، وإذا المصحف في حجره ، فأعظمت أن أدنو ، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست ، فقلت:ما يبكيك يا أبا عباس ، جعلني الله فداك ؟ قال:فقال:هؤلاء الورقات . قال:وإذا هو في "سورة الأعراف "، قال:تعرف أيلة قلت:نعم . قال:فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة ، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها الماخض ، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم . فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال:إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت ، فخذوها فيه ، وكلوها في غيره من الأيام . فقالت ذلك طائفة منهم ، وقالت طائفة:بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت . فكانوا كذلك ، حتى جاءت الجمعة المقبلة ، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها ، واعتزلت طائفة ذات اليمين ، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت . وقال الأيمنون:ويلكم ، الله الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله . وقال الأيسرون:( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ؟ قال الأيمنون:( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا ، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم . فمضوا على الخطيئة ، وقال الأيمنون:فقد فعلتم ، يا أعداء الله . والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم ، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب . فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا ، فلم يجابوا ، فوضعوا سلما ، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال:أي عباد الله ، قردة والله تعاوي لها أذناب . قال:ففتحوا فدخلوا عليهم ، فعرفت القرود أنسابها من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فتقول:ألم ننهكم عن كذا ؟ فتقول برأسها ، أي نعم . ثم قرأ ابن عباس:( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ) قال:فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها ؟ . قال:قلت:جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه ، وخالفوهم وقالوا:( لم تعظون قوما الله مهلكهم ) ؟ قال:فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين
وكذا روى مجاهد ، عنه .
وقال ابن جرير:حدثنا يونس ، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز ، عن مالك ، قال:زعم ابن رومان أن قوله تعالى:( تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) قال:كانت تأتيهم يوم السبت ، فإذا كان المساء ذهبت ، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر ، فاتخذ - لذلك - رجل خيطا ووتدا ، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت ، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد ، أخذه فاشتواه ، فوجد الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك ، فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم:"فإنه جلد حوت وجدناه ". فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك - ولا أدري لعله قال:ربط حوتين - فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجدوا رائحة ، فجاءوا فسألوه فقال لهم:لو شئتم صنعتم كما أصنع . فقالوا له:وما صنعت ؟ فأخبرهم ، ففعلوا مثل ما فعل ، حتى كثر ذلك . وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم ، فأصابهم من المسخ ما أصابهم . فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم ، يطلبون منهم ما يطلب الناس ، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم ، فنادوا فلم يجيبوهم ، فتسوروا عليهم ، فإذا هم قردة ، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ، ويدنو منه ويتمسح به
وقد قدمنا في سورة "البقرة "من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ، ولله الحمد والمنة .
القول الثاني:أن الساكتين كانوا من الهالكين .
قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ; أنه قال:ابتدعوا السبت فابتلوا فيه ، فحرمت عليهم فيه الحيتان ، فكانوا إذا كان يوم السبت ، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر . فإذا انقضى السبت ، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل ، فإذا جاء السبت جاءت شرعا ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ثم ، ضرب له وتدا في الساحل ، وربطه وتركه في الماء . فلما كان الغد ، أخذه فشواه فأكله ، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ، ولا ينهاه منهم أحد ، إلا عصبة منهم نهوه ، حتى ظهر ذلك في الأسواق ، ففعل علانية . قال:فقالت طائفة للذين ينهونهم:( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ) فقالوا:سخط أعمالهم ( ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به ) إلى قوله:( قردة خاسئين ) قال ابن عباس:كانوا أثلاثا:ثلث نهوا ، وثلث قالوا:( لم تعظون قوما الله مهلكهم ) وثلث أصحاب الخطيئة ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم .
وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين ، أولى من القول بهذا ; لأنه تبين حالهم بعد ذلك ، والله أعلم .
وقوله تعالى:( وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ) فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا .
و ) بئيس ) فيه قراءات كثيرة ، ومعناه في قول مجاهد:"الشديد "، وفي رواية:"أليم ". وقال قتادة:موجع . والكل متقارب ، والله أعلم .
وقوله:( خاسئين ) أي:ذليلين حقيرين مهانين .