[ 166]{ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( 166 )} .
{ فلما عتوا عن ما نهوا عنه} أي تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه{ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أي صاغرين أذلاء ،بعداء من الناس .
قال الزجاج:أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع .
وقال غيره:المراد بالأمر هو الأمر التكويني ،لا القولي ،أي:التكليفي ،لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به .وفي الكلام استعارة تخييلية .شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف ،ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة ،بأمر المطاع للمطيع ،في حصول المأمور به ،من غير توقف .كذا في ( العناية ) .
/ وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد ،فعتوا بعد ذلك ،فمسخهم .ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا لما قبلها .
تنبيهات:
الأول:قال الجشمي:تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت .وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ ،وأنهم خالفوا أمر الله ،وهذا القدر يقتضيه الظاهر .ومتى قيل:أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام ،هل كانت معجزة .قلنا:اختلفوا فيه .فقيل:كان معجزة لنبي ذلك الزمان ،لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيرا في يوم واحد ،ولا يظهر في سائر الأيام .فإن كان كذلك ،فلا بد أن الله تعالى قوّى دواعي الحيتان يوم السبت ،فظهروا .وصرفهم في سائر الأيام ،فلم يظهروا ،فكانت معجزة .وقيل:كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت ،فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم ،كما اعتاد الدواب كثيرا من الأشياء .انتهى .
وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:
منها:أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت ،حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة ،نشبت بتلك الحبائل ،فلم تخلص منها يومها ،فإذا كان الليل ،أخذوها بعد انقضاء السبت .
ومنها:أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل ،ولكن يأكلونها في غيره من الأيام ،فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها ،لا عن صيدها .فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت:ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف ،أو قذف ،أو بعض ما عنده من العذاب .فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم ،وإذا هم قردة- رواه عبد الرزاق وابن جرير- وثمة روايات أخر .
وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم ،لا أبدانهم- والله أعلم- .
الثاني:استدل بهذه القصة على تحريم الحيل .
/ قال الإمام ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ):ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ،الحيل والمكر والخداع ،الذي يتضمن تحليل ما حرم الله ،وإسقاط ما فرضه ،ومضادته في أمره ونهيه .وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه .فإن الرأي رأيان:رأي يوافق النصوص ،وتشهد له بالصحة والاعتبار ،وهو الذي اعتبره السلف ،وعملوا به .ورأي يخالف النصوص ،وتشهد له بالإبطال والإهدار ،فهو الذي ذموه وأنكروه .وكذلك الحيل نوعان:نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به ،وترك ما نهى عنه ،والتخلص من الحرام ،وتخليص المحق من الظالم المانع له ،وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي ،فهذا النوع محمود ،يثاب فاعله ومعلمه .ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ،وتحليل المحرمات ،وقلب المظلوم ظالما ،والظالم مظلوما ،والحق باطلا ،والباطل حقا ،فهذا الذي اتفق السلف على ذمه ،وصاحوا بأهله من أقطار الأرض .
ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله .وقال في سادسها:
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد ،بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ،فلما وقع فيها الصيد ،أخذوه يوم الأحد .قال بعض الأئمة:ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ،ممن يتلبس بعلم الفقه ،وهو غير فقيه ،إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده ،وتعظيم حرماته ،والوقوف عندها .ليس المتحيلَ على إباحة محارمه ،وإسقاط فرائضه .ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة ،وإنما هو استحلال تأويل .واحتيال ظاهره ظاهر الإيفاء ،وباطنه باطن الاعتداء ،ولهذا – والله أعلم- مسخوا قردة ،لأن صور القردة فيها شبه من صورة الإنسان ،وفي أوصافه شبه منهم ،وهو مخالف له في الحد والحقيقة .فلما نَسَخَ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره ،دون حقيقته ،مسخهم الله تعالى قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم ،دون الحقيقة ،جزاء وفاقا .
/ ثم روى في عاشرها عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[4230]}:لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ،وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ".
الثالث:دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق:فرقة ارتكبت المحذور ،واحتالوا على صيد السمك يوم السبت ،كما بينا .وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم .وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ،ولكنها قالت للمنكرة:لم تنهون هؤلاء ،وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم ؟ فأجابتها المنكرة:بأنا نفعل ذلك اعتذار إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .ثم نص تعالى على نجاة الناهين ،وهلاك الظالمين .
وقال ابن كثير:وسكت عن الساكتين ،لأن الجزاء من جنس العمل ،فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ،ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم:هل كانوا من الهالكين ،أو من الناجين ؟ على قولين:ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم ،ثم صار إلى نجاتهم ،لما قال له غلامه عكرمة:ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه ،وخالفوهم ،وقالوا:{ لم تعظون قوما الله مهلكهم} ؟ فكساه حلة .
الرابع:دل قوله تعالى:{ قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} على أن النهي عن المنكر لا يسقط .ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه .إذ ليس من شرطه حصول الامتثال عنه ،ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين ،والغيرة على حدود الله ،والاعتذار إليه تعالى ،إذ شدد في تركه- لكفاه فائدة .