القول في تأويل قوله تعالى:وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
قال أبو جعفر:واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين:(وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا)، بفتح السين.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة:(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا)، بضم السين، بمعنى:رُزِقوا السعادة.
* * *
قال أبو جعفر:والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
فإن قال قائل:وكيف قيل:(سُعِدُوا) ، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل:"أسعدوا "، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله:"سعده الله "، بل إنما تقول:"أسعده الله "؟
قيل ذلك نظير قولهم:"هو مجنون "و "محبوب "، (31) فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل:"أجنه الله "، و "أحبه "، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. (32)
* * *
وتأويل ذلك:وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامتالسموات والأرض، يقول:أبدًا، (إلا ما شاء ربك).
* * *
فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم:(إلا ما شاء ربك )، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا:وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
18583- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله:(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال:هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول:خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول:إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك:(إلا ما شاء ربك ) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا:وذلك هو الخلود فيها أبدًا.
*ذكر من قال ذلك:
18584- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان:(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال:ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال:(عطاء غير مجذوذ).
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.
فقال بعضهم في ذلك معنيان:
أحدهما:أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك:"والله لأضربنَّكإلا أن أرى غير ذلك "، وعزمُك على ضربه. (33) قال:فكذلك قال:(خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) ، ولا يشاؤه، [وهو أعلم]. (34)
قال:والقول الآخر:أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله ، ومع ما هو أكثر منه ، (35) كان معنى "إلا "ومعنى "الواو "سواء. فمن كان قوله:(خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض)،سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل "إلا "مكان "سوى "فيصلح، وكأنه قال:"خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد ". ومثله في الكلام أن تقول:لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [مِنْ قِبَل فلان "، أفلا ترى أنه في المعنى:لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين] ؟ (36) قال:وهذا أحبُّ الوجهين إليّ ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. (37) وقد وصل الاستثناء بقوله:(عطاء غير مجذوذ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم.
* * *
وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا:جائز فيه وجه ثالثٌ:وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول:فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.
* * *
وقال آخر منهم:جائز أن يكون دوام السموات والأرض ، بمعنى:الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وتستثنى المشيئة من داومها ، لأنَّ أهلالجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا ، لا في الجنة، فكأنه قال:خالدين في الجنة ، وخالدين في النار ، دوامَ السماء، والأرض ، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك.
* * *
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) ، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في "إلا "توجيهها إلى معنى الاستثناء ، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام،أعني في قوله:(إلا ما شاء ربك)،تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.
* * *
وأما قوله:(عطاء غير مجذوذ) ، فإنه يعني:عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.
* * *
من قولهم:"جذذت الشيء أجذّه جذًّا "، إذا قطعته، كما قال النابغة:(38)
تَجــذُّ السَّـلُوقِيَّ المُضَـاعَفَ نَسْـجُهُ
وَيوقِــدْنَ بِالصُّفَّـاحِ نَـارَ الحُبَـاحِبِ (39)
يعني بقوله:"تجذ ":تقطع.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18585- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:(عطاء غير مجذوذ) ، قال:غير مقطوع.
18586- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(عطاء غير مجذوذ) ، يقول:غير منقطع.
18587- حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:(عطاء غير مجذوذ) ، يقول:عطاء غير مقطوع.
18588- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(مجذوذ)، قال:مقطوع.
18589- حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:(عطاء غير مجذوذ) ، قال:غير مقطوع.
18590- . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18591- .... قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
18592- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عنابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18593- . . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله:(عطاء غير مجذوذ) ، قال:أما هذه فقد أمضَاها. يقول:عطاء غير منقطع.
18594- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:(عطاء غير مجذوذ) ، غير منـزوع منهم.
------------------------
الهوامش:
(31) في المطبوعة والمخطوطة:"هو مجنون ، محبوب "، والأجود الفصل بالواو .
(32) غاب أيضًا عني مكانه ، فمن وجده فليقيده .
(33) في معاني القرآن للفراء:"وعزيمتك على ضربه "، وهذا نص كلام الفراء .
(34) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء .
(35) في المطبوعة والمخطوطة:"ومع ما هو أكثر منه "، والصواب من معاني القرآن:"أو مع . . ".
(36) كان في المطبوعة والمخطوطة:"إلا الألفين اللذين قبلهما "، وليس فيهما بقية ما أثبت ، وهو كلام مبهم ، نقلت سائره ، وزدته بين القوسين من معاني القرآن للفراء ، فهذا نص كلامه .
(37) في المطبوعة:"لا خلف لوعده "، وفي المخطوطة ؛ "لا مخلف لوعده "، والصواب من معاني القرآن .
(38) في المخطوطة:"كما قال الشاعر النابغة "، وهي زيادة لا تجدي .
(39) ديوانه:44 ، واللسان ( حبحب ) ، ( سلق ) ، ( صفح ) ، من قصيدته المشهورة ، يقول فيه قبله ، في صفة سيوف الغسانيين ، وذلك في مدحه عمرو بن الحراث الأعرج:
وَلاَ عَيْــبَ فِيهِـمْ غَـيْرَ أَنَّ سُـيُوفَهُمْ
بِهِــنَّ فُلُـولٌ مِـنْ قِـرَاعِ الْكَتَـائِبِ
تُــوُرِّثْن مِـنْ أَزْمَـانِ يَـوْمِ حَلِيمـةٍ
إلـى اليَـوْمِ قَـدْ جُـرِّبنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
تَقُـــدُّ السُّـــلُوقيّ . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه رواية الديوان . و "السلوقي "، الدروع ، منسوبة إلى "سلوق "، وهي مدينة . و "الصفاح "حجارة عراض . و "نار الحباحب "، الشرر الذي يسقط من الزناد . ورواية الديوان:"وتوقد بالصفاح "، وهما سواء .