{مَجْذُوذٍ}: مقطوع .
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ} بإيمانهم الخالص لله وبأعمالهم الصالحة ،{فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ} فإذا شاء الله لهم الخروج منها فلا بد أن تتحقق مشيئته ،{عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع ،إشارةً إلى استمرار البقاء في الجنة ،على أساس ما يوحيه عدم الانقطاع في عطاء الرحمة والرضوان والنعيم .
الجنة والنار بين الخلود والأجل المحدود
وقد يثار سؤال حول التعبير بكلمة:{مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} ،فهي تحدد الخلود بالشكل الذي قد يوحي بأنه إذا كان للسماوات والأرض أجلاً محدوداً ،فيترتب عليه وجود أجل محدود للجنة والنار ،باعتبار وجودهما في نطاق السماء والأرض ،وربما يؤكد ذلك بعض الآيات التي حددت للسماء والأرض أجلاً كما في سورة الأحقاف:{حم* تَنزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} [ الأحقاف:13] ،وقوله تعالى في سورة الأنبياء:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [ الأنبياء: 104] .
على أن هناك آيات تدل على الخلود الأبدي للجنة والنار كقوله تعالى في سورة التغابن:{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [ التغابن:9] ،وقوله تعالى في سورة الأحزاب:{وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً*خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [ الأحزاب: 6465] ...
فكيف يمكن التوفيق بين ذلك ؟
الميزان ...رأي ومناقشة
وقد أجاب صاحب الميزان عند ذلك بقوله: «والذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضاً وسماوات ،وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه ،قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [ إبراهيم: 48] ،وقال حاكياً عن أهل الجنة:{وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} [ الزمر: 74] ،وقال يَعِدُ المؤمنين ويصفهم:{أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [ الرعد:22] .
فللآخرة سماوات وأرض كما أنّ فيها جنةً وناراً ولهما أهلاً ،وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده ،وقال:{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [ النحل:96] ،فحكم بأنها باقيةٌ غير فانية .
وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة أن السماوات والأرض مطلقاً ،ومن حيث أنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية ،وإنما تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود ،وأما السماوات التي تظُلّ الجنة مثلاً ،والأرض التي تُقلّها وقد أشرقت بنور ربها ،فهي ثابتة غير زائلة ،فالعالم لا يخلو منهما قط » !.
وقد نلاحظ أن ما استظهره العلامة الطباطبائي من الآيات التي ادعى دلالتها على فناء السماوات والأرض في عالم الدنيا غير دقيق ،لأن الآية التي تتحدث عن تبديل الأرض ليست ظاهرة في تبدل الحقيقة بل يمكن أن يكون المقصود بها تبدلُّ الصورة ،وهذا ما يؤكده الحديث عن تحول الجبال إلى قاع صفصفٍ ،كما أن الآية التي تتحدث عن طيّ السماء قريبةٌ من هذه الصورة .أما الآية التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض بالحق وأجل مسمّى ،فليس من الضروري أن يكون الأجل المسمّى أجلاً لهما ،بل ربما كان الملحوظ فيهكما يرى بعض المفسرينالمخلوقات التي تعيش عليها من خلال الحق الذي يُراد لها أن تتحرك فيه ،ومن خلال الوقت الذي وُقّت لها ...
وعلى كل حال ،فليس هناك من دليل على وجود سماوات وأرض في عالم الآخرة غير ما هو في عالم الدنيا ،ولا دلالة في قوله تعالى:{وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} [ الزمر:74] فلعلها تصلح دليلاً على أن الجنة في الأرض كما يستفيده البعض ،أو على وراثة المؤمنين للأرض ،وللجنة التي يتحركون فيها بحرّية ،وهكذا في آية تبدّل الأرض .
أما الحديث عن الخلود في دائرة دوام السماوات والأرض ،فلا يفرض أن يكون هناك وقت محدّد لهما ،بل يمكن أن يكون تعبيراً طبيعياً عن ارتباط الجنة والنار بالمكان الذي يوجدان فيه ،تماماً كما هو الأمر في حالة التعليق بالمشيئة ،كأسلوب من أساليب التنوُّع في التعبير الإيحائي ،للإيحاء بالعوامل المؤثرة في امتداد الخلود في خط الأبد ،وعلاقته بطبيعة الأشياء التي لا تحمل في ذاتها عناصر الحتمية إلا من خلال استكمال الشروط الطبيعية في الوجود ،والإرادة الإلهية في حركة الكون كله ...ويبقى للآيات الأخرى الحديث عن طبيعة الواقع الفعلي للشروط ،وعما تقتضيه المشيئة الألهية من جهة أخرى ،وربما كان هذا المقدار من البحث كافياً في استيضاح طبيعة المسّألة في هذه الآية .