القول في تأويل قوله تعالى:فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)
قال أبو جعفر:وفي الكلام متروكٌ حذف ذكره، اكتفاءً بما ظهر عما ترك ، وهو:أَرْسِلْهُ مَعَنَا، ( فلما ذهبوا به وأجمعوا) ، يقول:وأجمع رأيهم، (1) وعزموا على (أن يجعلوه في"غيابة الجب "(2) ) . كما:-
18831- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قوله:إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، الآية ، قال، قال:لن أرسله معكم ، إني أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ، فأرسله معهم ، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه ، فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيمًا ، (3) فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول:يا أبتاه! يا يعقوب! لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا (4) أليس قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلّق بشَفير البئر.
فربطوا يديه، ونـزعوا قميصه ، فقال:يا إخوتاه! ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ ! فقالوا:ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحد عشر كوكبًا تؤنسك ! قال:إني لم أر شيئًا ، فدلوه في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت. وكان في البئر ماءٌ فسقط فيه ، ثم أوَى إلى صخرة فيها فقام عليها . قال:فلما ألقوه في البئر، جعل يبكي ، فنادوه ، فظنّ أنها رحمة أدركتهم ، فلبَّاهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه ، فقام يهوذا فمنعهم ، وقال:قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه! وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
* * *
وقوله:(فلما ذهبوا به وأجمعوا) فأدخلت "الواو "في الجواب ، كما قال امرؤ القيس:
فَلَمَّـا أجَزْنَـا سَـاحَةَ الحَـيِّ وانْتَحَـى
بِنـا بَطْـنُ خَـبْتٍ ذِي قِفـاف عَقَنْقَل (5)
فأدخل الواو في جواب "لما "، وإنما الكلام:فلما أجزنا ساحة الحي، انتحى بنا ، وكذلك:(فلما ذهبوا وأجمعوا) ، لأن قوله:"أجمعوا "هو الجواب.
* * *
وقوله:(وأوحينا إليه لتنبِّئنهم بأمرهم) ، يقول:وأوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك ، ( بأمرهم هذا) يقول:بفعلهم هذا الذي فعلوه بك (وهم لا يشعرون) يقول:وهم لا . يعلمون ولا يدرُون (6) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله عز وجل بقوله:(وهم لا يشعرون) .
فقال بعضهم:عنى بذلك:أن الله أوحى إلى يوسف أنّ يوسف سينبئ إخوته بفعلهم به ما فعلوه:من إلقائه في الجب ، وبيعهم إياه ، وسائر ما صنعوا به من صنيعهم ، وإخوته لا يشعرون بوحي الله إليه بذلك .
*ذكر من قال ذلك:
18832- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:(وأوحينا إليه) إلى يوسف.
18833- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا) قال:أوحينا إلى يوسف:لتنبئن إخوتك.
18834- ...قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله:(وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) قال:أوحى إلى يوسف وهو في الجبّ أنْ سينبئهم بما صنعوا ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي
18835- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال:حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد:(وأوحينا إليه) ، قال:إلى يوسف.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك:وأوحينا إلى يوسف بما إخوته صانعون به ، وإخوته لا يشعرون بإعلام الله إيّاه بذلك .
*ذكر من قال ذلك:
18836- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله:(وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ، بما أطلع الله عليه يوسف من أمرهم، وهو في البئر.
18837- حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال:حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة:(وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)، قال:أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي.
18838- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد ، قال:أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة، بنحوه ،إلا أنه قال:أن سينبئهم .
* * *
وقال آخرون:بل معنى ذلك:أن يوسف سينبئهم بصنيعهم به، وهم لا يشعرون أنه يوسف .
*ذكر من قال ذلك:
18839-حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله:(وهم لا يشعرون) يقول:وهم لا يشعرون أنه يوسف.
18840- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي، عن أبيه، قال:سمعت ابن عباس يقول:لما دخل إخوةيوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال:جيء بالصُّوَاع، فوضعه على يده، ثم نقره فطنَّ، فقال:إنه ليخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب! قال:ثم نقره فطنَّ ،فأتيتم أباكم فقلتم:إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدَمٍ كذب! قال:فقال بعضهم لبعض:إن هذا الجام ليخبره بخبركم! قال ابن عباس:فلا نرى هذه الآية نـزلت إلا فيهم:(لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون). (7)
* * *
----------------------
الهوامش:
(1) انظر تفسير"الإجماع"فيما سلف ص:147 ، 148 .
(2) انظر تفسير"غيابة الجب"فيما سلف ص:565 ، 566 .
(3) انظر ما قلته في"جعل"وأشباهها ، وأنها أفعال استعانة ، لها مكان في التعبير لا يغني مكانها شيء غيرها . انظر ج 11 تعليق:1 .
(4) انظر ما سلف ص:565 ، تعليق:1 في اسم هذا القائل ، وأنه"روبيل"أو"شمعون"، ولم يذكر هناك"يهوذا".
(5) معلقته المشهورة ، وسيأتي في التفسير 17:73 ( بولاق ) ، وكان في المطبوعة:"ذي حقاف"، وأثبت روايته هذه من المخطوطة .
(6) انظر تفسير"شعر"فيما سلف 12:576 ، تعليق:3 ، والمراجع هناك .
(7) الأثر:18840 -"صدقة بن عبادة بن نشيط الأسدي"، روى عن أبيه عن ابن عباس . روى عنه أبو داود الطيالسي ، وموسى بن إسماعيل ، وغيرهما ، مترجم في الكبير 2 / 2 / 298 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 433 . /8 وأبوه"عبادة بن نشيط الأسدي"، روى عن ابن عباس ، روى عنه ابنه صدقة ، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 96 . ولم يذكروا فيه ولا في ابنه جرحًا . ومع ذلك فالخبر عندي غير مستقيم . وكفاه اختلالا أنه مخالف لصريح القرآن ، ولو وافقه لكان أولى به أن يكون قال لهم ذلك ، لما دخلوا عليه فقال لهم:"هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون"، في آخر السورة .