التّفسير
الكذب المفضوح:
وأخيراً انتصر إِخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف ،فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإِزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم ...وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإِرسال يوسف معهم .
فجاءوا صباحاً إلى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف ،وكرر توصياته في شأنه ،فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ،وتحركوا إلى خارج المدينة .
يقال: إِنّ أباهم ودعهم إلى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه إلى صدره ودمعت عيناه ،ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم ،ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته ،وكان إِخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإِظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم ،ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا إلى أنّه لا يراهم ،حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم » وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف ،فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجئ من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيرهُ أحد منهم .
نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة ،ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ...فتعجب إِخوته كثيراً وحسبوا أن أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً ...ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إِذ قال:لا أنسى أنني نظرتأيها الإِخوةإلى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة ،فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإِخوة ،فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم ،والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أُجار ،وقد سلطكم الله عليّ لأتعلم هذا الدرس ،وهو ألاّ أعتمد وأتوكّل على أحد سواه ...حتى ولو كانوا إِخوتي .
وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: ( فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ){[1851]} .
جملة «أجمعوا » تدلّ على أنّ جميع الإِخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة ،وإِن لم يتفقوا جميعاً على قتله .
وأساساً فإنّ كلمة «أجمعوا » مأخوذة من مادة «جمع » وهي في هذه الموارد إِشارة إلى جمع الآراء والأفكار .
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله أوحى إلى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألاّ يحزن فالعاقبة له ،إِذ تقول: ( وأوحينا إِليه لتنبئتهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) .
ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين ،فيأتي إِخوتك ليمدّوا أيدي الحاجة إِليك ،ويكونوا كالظامئين إلى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إِليك في منتهى التواضع ،ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون أنك أخوهم ،وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا ...وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم !
وهذا الوحي الإِلهي لم يكن وحي النبوة ،بقرينة الآية ( 22 ) من السورة ذاتها ،بل كان إِلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيداً ،بل له حافظ ورقيب ،وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة .
لقد نفّذ إِخوة يوسف خطتهم كما أردوا ،ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم أن يوسف انتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم .
وكانت الفكرة التي أوصلتهم إلى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه ،فأقنعوهظاهراًعن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إِليه بدلائل مزيّفة !!