قوله تعالى : { وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ؛ القَفْوُ اتّباع الأثر من غير بصيرة ولا علم بما يصير إليه ، ومنه القَافَةُ ؛ وكانت العرب فيها من يقتاف الأثر وفيها من يقتاف النسب ، وقد كان هذا الاسم موضوعاً عندهم لما يخبر به الإنسان عن غير حقيقة ، يقولون تَقَوَّفَ الرجل إذا قال الباطل ؛ قال جرير :
* وطَالَ حِذَارِي خِيفَةَ البَيْنِ والنَّوَى * وأُحْدُوثَةٍ مِنْ كَاشِحٍ مُتَقَوِّفِ *
قال أهل اللغة : أراد بقوله الباطل . وقال آخر :
* وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ سَاكِنٌ * بِهِنَّ الحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا *
أي التقاذف : وإنما سُمّي التّقاذف بهذا الاسم لأن أكثره يكون عن غير حقيقة ؛ وقد حكم الله بكذب القاذف إذا لم يَأْتِ بالشهود بقوله : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين } [ النور : 12 ] . قال قتادة في قوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } : " لا تقل سمعتُ ولم تسمعُ ولا رأيتُ ولم تَرَهْ ولا علمتُ ولم تعلمْ " . وقد اقتضى ذلك نَهْيَ الإنسان عن أن يقول في أحكام الله ما لا علم له به على جهة الظنّ والحسبان وأن لا يقول في الناسِ من السوء ما لا يعلم صحته ، ودل على أنه إذا أخبر عن غير علم فهو آثم في خبره كذباً كان خبره أو صدقاً لأنه قائل بغير علم وقد نهاه الله عن ذلك .
قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } فيه بيان أن لله علينا حقّاً في السمع والبصر والفؤاد والمرء مسؤول عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع بما لا يحلّ والنظر إلى ما لا يجوز والإرادة لما يقبح . ومن الناس من يحتجُّ بقوله : { وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } في نفي القياس في فروع الشريعة وإبطال خبر الواحد ؛ لأنهما لا يفضيان بنا إلى العلم والقائل بهما قائل بغير علم . وهذا غلط من قائله ؛ وذلك لأن ما قامت دلالة القول به فليس قولاً بغير علم ، والقياسُ وأخبارُ الآحاد قد قامت دلائل موجبة للعلم بصحتهما وإن كنّا غير عالمين بصدق المخبر ، وعدمُ العلم بصدق المخبر غير مانع جواز قبوله ووجوب العمل به ، كما أن شهادة الشاهدين يجب قبولها إذا كان ظاهرهما العدالة وإن لم يقع لنا العلم بصحة مخبرهما ، وكذلك أخبار المعاملات مقبولة عند جميع أهل العلم مع فَقْدِ العلم بصحة الخبر . وقوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } غير موجب لردّ أخبار الآحاد كما لم يوجب ردّ الشهادات ، وأما القياس الشرعيّ فإن ما كان منه من خبر الاجتهاد فكل قائل بشيء من الأقاويل التي يسوغ فيها الاجتهاد فهو قائل بعلم إذْ كان حكم الله عليه ما أدّاه اجتهاده إليه . ووجه آخر ، وهو أن العلم على ضَرْبَيْنِ : علم حقيقي وعلم ظاهر ، والذي تعبدنا به من ذلك هو العلم الظاهر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] ، وإنما هو العلم الظاهر لا معرفة مغيب ضمائرهن ؛ وقال إخوة يوسف : { وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين } [ يوسف : 81 ] فأخبروا أنهم شهدوا بالعلم الظاهر .