قوله تعالى : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه } من غير أن يسأل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمَثَلِ على ما بينا ، وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه ، لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسأله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به .
قوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، وهو يعني الشركاء ؛ يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبَغْيُ .
ويدل عليه أيضاً قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } .
قوله تعالى : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ } يدل على أنه عليه السلام لم يقصد المعصية بديّاً ، وأن كلام المَلَكَيْنِ أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية وأن الله تعالى قد شدّد عليه المحنة بها ؛ لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة ، فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها .
قوله تعالى : { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } . روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في " ص " وليست من العزائم " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجدة " ص " : " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً ونَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْراً " .
ورَوَى الزهري عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر سجد في " ص " . وروى عثمان وابن عمر مثله .
وقال مجاهد : قلت لابن عباس : من أين أخذت سجدة " ص " ؟ قال : فتلا عليَّ : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، فكان داود سجد فيها فلذلك سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم .
ورَوَى مسروق عن ابن مسعود أنه كان لا يسجد فيها ويقول : " هي توبة نبيّ " .
وقول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها اقتداءً بداود لقوله : { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] يدلّ على أنه رأى فِعْلَها واجباً ؛ لأن الأمر على الوجوب ، وهو خلاف رواية عكرمة عنه أنها ليست من عزائم السجود . ولما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود ، دلَّ على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود .
وأما قول عبدالله : " إنها ليست بسجدة لأنها توبة نبيّ " فإن كثيراً من مواضع السجود إنما هو حكايات عن قوم مُدِحُوا بالسجود ، نحو قوله تعالى : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] وهو موضع السجود للناس بالاتفاق ، وقوله تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً } [ الإسراء : 107 ] ونحوها من الآي التي فيها حكاية سجود قوم فكانت مواضع السجود .
وقوله : { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } [ الانشقاق : 21 ] يقتضي لزوم فعله عند سماع القرآن ، فلو خُلِّينا والظاهر أوْجَبْنَاه في سائر القرآن ، فمتى اختلفنا في موضع منه فإن الظاهر يقتضي وجوب فعله إلاّ أن تقوم الدلالة على غيره . وأجاز أصحابنا الركوع عن سجود التلاوة ، وذكر محمد بن الحسن أنه قد رُوي في تأويل قوله تعالى : { وخَرَّ رَاكِعاً } أن معناه : خَرَّ ساجداً ؛ فعبّر بالركوع عن السجود ، فجاز أن ينوب عنه إذْ صار عبارة عنه .