باب الأيمان
مطلب : في اليمين اللغو
قال الله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أيْمَانِكُمْ }
عقيب نهيه عن تحريم ما أحلّ الله . قال ابن عباس : " لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حَلَفُوا على ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية " . وأما اللَّغْوُ فقد قيل فيه إنه ما لا يُعْتَدُّ به ، ومنه قول الشاعر :
* أو مِائَة تَجْعَلُ أوْلادَها * لَغْواً وعَرض المائة الجَلْمَد *
يعني نُوقاً لا تعتدُّ بأولادها . فعلى هذا لَغْوُ اليمين ما لا يُعْتَدُّ به ولا حُكْمَ له . وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّه باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ } ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا : حدثنا محمد بن بكّار : حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء ، وسئل عن اللغو في اليمين فقال : قالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هُوَ كَلامُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ لا وَاللَّهِ وبَلَى واللَّه " . وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : " لغو اليمين : لا والله وبلى والله " موقوفاً عليها . ورَوَى عِكْرِمَةُ عن ابن عباس في لَغْوِ اليمين : " أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك " . ورُوي عن ابن عباس أيضاً " أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان " . ورُوي عن الحسن والسدّي وإبراهيم مثل قول عائشة . وقال بعض أهل العلم : " اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد ، على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سَبْقِ اللسان " . وقال بعضهم : " اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفّارة فيه " ؛ ورُوي فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَتْرُكْها فإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُها " .
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً ، فقال أصحابنا : اللغو هو قوله : " لا والله وبلى والله " فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي . وقال مالك والليث نحو ذلك ؛ وهو قول الأوزاعي . وقال الشافعي : " اللغو هو المعقود عليه " ، وقال الربيع عنه : " من حلف على شيء يَرَى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفّارة " .
قال أبو بكر : لما قال الله تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ } أبان بذلك أن لَغْوَ اليمين غير معقود منها ، لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نَفْيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة . ويدلّ على ذلك أيضاً أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له ، فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة ؛ لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت ، فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وإن فيها الكفارة ، فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال .
مطلب : في أقسام اليمين
والأيمان على ضَرْبَيْن : ماضٍ ومستقبل ؛ والماضي ينقسم قسمين : لَغْوٌ وغَمُوسٌ ، ولا كفارة في واحد منهما . والمستقبل ضربٌ واحد ، وهو اليمين المعقودة ، وفيها الكفارة إذا حنث . وقال مالك والليث مثل قولنا في الغَمُوس أنه لا كفّارة فيها . وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي : " في الغَمُوسِ الكفّارةُ " . وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب ، فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعاً بقوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤْاخِذُكُمْ بما عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ } ، وقال في سورة البقرة : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [ البقرة : 225 ] والمراد به والله أعلم الغَمُوسُ لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة ، إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكَسْبِ القلب ، ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك ؟ فدل على أن قوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [ البقرة : 225 ] المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب ، وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة . وذِكْرُهُ للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين ، يدلّ على أن اللغو هو الذي لم يُقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى .
مطلب : لا كفارة في اليمين الغموس
ومما يدل على أن الغَمُوسَ لا كفارة فيها قوله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } [ آل عمران : 77 ] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة ، فلو أوْجَبْنَا فيها الكفّارَة كان زيادةً في النصّ وذلك غير جائز إلا بنصٍّ مثله . ورَوَى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وهُوَ فيها آثِمٌ فَاجِرٌ ليَقْطَعَ بها مالاً لَقِيَ اللهَ تَعَالَى وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " . ورَوَى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ حَلَفَ على مِنْبَرِي هذا بيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ " . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم المأثم ولم يذكر الكفارة ، فدلّ على أن الكفارة غير واجبة من وجهين ، أحدهما : أنه لا تجوز الزيادة في النصّ إلا بمثله ، والثاني : أنها لو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في اليمين المعقودة في قوله عليه السلام : " مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْها فَلْيَأْتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ مِنْها ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " رواه عبدالرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما . ومما يدلّ على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة : { وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ } وحِفْظُها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها ، ومعلومٌ امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ .
فإن قال قائل : قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } يقتضي عمومُه إيجابَ الكفّارة في سائر الأيمان إلاّ ما خصّه الدليل . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل ، فلا محالة أن فيه ضميراً يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث ؛ وإذا ثبت أن في الآية ضميراً سقط الاحتجاجُ بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجبُ بها كفارةٌ قبل الحنث ، فثبت أن في الآية ضميراً فلم يُجِزِ اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقاً بضمير غير مذكور فيها . وأيضاً قوله تعالى : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي ألزمنا حفظها . وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها ، واليمينُ على الماضي لا يقع فيها حِنْثٌ فينتظمها اللفظ ، ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول : " كان أمس الجمعة إن شاء الله " و " الله لقد كان أمس الجمعة " إذا كان الحِنْثُ وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه . ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال : " والله " كان ذلك قَسَماً ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول ، لأنه لم يتعلق به حِنْثٌ .
وقد قُرئ قوله تعالى : { بِمَا عَقَّدْتُم } على ثلاثة أوجه : { عَقَّدْتُم } بالتشديد قرأه جماعة ، و " عَقَدْتُمْ " خفيفة ، و " عَاقَدْتُمْ " ، فقوله تعالى : { عَقَّدْتُم } بالتشديد كان أبو الحسن يقول : لا يحتمل إلا عقد قول ، و " عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يحتمل عَقْدَ القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول ، ويحتمل عقد اليمين قولاً ؛ ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلاّ عقد اليمين قولاً ؛ وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ، فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولاً ، ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصوراً على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماضٍ والخبرُ عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقاً أو كذباً .
فإن قال قائل : إذا كان قوله تعالى : " عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين ، فهلاّ حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين ! وكذلك قوله تعالى : { بما عَقَّدْتُم } بالتشديد محمولٌ على عقد اليمين ، فلا ينفي ذلك استعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموماً في سائر الأيمان . قيل له : لو سُلّم لك ما ادّعيتَ من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعةً من حمله على ما وصفت ، وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة ، فبطل بذلك تأويل من تأوّل اللفظ على قَصْدِ القلب في حكم الكفارة ، وثبت أن المراد بالقراءتين جميعاً في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل .
فإن قال قائل : قوله : { عَقَّدْتُمْ } بالتشديد يقتضي التكرار ، والمؤاخذةُ تلزم من غير تكرار ، فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار ؟ قيل له : قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه ، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيداً ، إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارةً بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة ؛ وأيضاً فإن في قراءة التشديد إفادةَ حكْمٍ ليس في غيره ، وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفّارة واحدة ، وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار : لا يلزمه إلاّ كفارة واحدة . فإن قيل : قوله : " بما عَقَدْتُمْ " بالتخفيف يفيد أيضاً إيجابَ الكفارة باليمين الواحدة . قيل له : القراءتان والتكرار جميعاً مستعملتان على ما وَصَفْنا ، ولكل واحدة منهما فائدة مجددة .
فصل
ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتجّ بهذه الآية من وجهين : أحدهما قوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } فجعل ذلك كفّارةً عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحِنْثِ ، لأن الفاء للتعقيب . والثاني : قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } . فأما قوله : { بما عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } فإنه لا خلاف أن فيه ضميراً متى أراد إيجابها ، وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل الحنث ، فثبت أن المراد : بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته ، وهو كقوله تعالى : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 185 ] والمعنى : فأفطر فعدة من أيام أُخَر ؛ وقوله : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة } [ البقرة : 196 ] فمعناه : فَحَلَقَ ففديةٌ من صيام ؛ كذلك قوله : { بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } معناه : فحنثتم فكفارته ؛ لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث ، وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث ، فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه . وأيضاً لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها ، لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمَّى بهذا الاسم ، فعلمنا أن المراد : إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين ؛ وكذلك قوله في نسق التلاوة : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } معناه : إذا حلفتم وحنثتم ؛ لما بيناه آنفاً .
فإن قيل : يجوز أن تسمَّى كفارةً قبل وجوبها كما يسمَّى ما يعجله من الزكاة قبل الحَوْلِ زكاةً لوجوب السبب الذي هو النّصاب ، وكما يسمَّى ما يعجله بعد الجراحة كفارةً قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال ، فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارةً قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها . قيل له : قد بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مراده بالآية ، وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضياً للإيجاب ولما ليس بواجب ، فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب . وأيضاً فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفراً بما يتبرع به إذا لم يحلف ، فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعاً بما أعطى ، ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلاً للمأمور به ، وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول ، فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوعٌ وليس بكفارة ولا زكاة ، وإنما أَجَزْناه لما قامت الدلالة أنّ إخراج هذا التطوع يمنع لزم الفرض بوجود الموت وحؤول الحَوْلِ .
فصل
ويحتج من يوجب على من عَقَدَ نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور ، مثل قوله : " إن دخلتُ الدار فللّه عليَّ حَجَّةٌ أو عِتْقُ رقبة " أو نحو ذلك ، فحنث بظاهر قوله تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } .
ويقول تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } ؛ قال : فلما كان هذا حالفاً وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون المنذور بعينه . وليس هذا كما ظنّ هذا القائل ؛ وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين ، لقوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } [ النحل : 91 ] ، وقال تعالى : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] ، وقال تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] ، وقال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } [ التوبة : 76 ] ، فذمّهم تعالى على تَرْكِ الوفاء بنفس المنذور ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ نَذَرَ نَذْراً لَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْراً سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الوَفَاءُ به " ، وكان قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ } في اليمين المعقودة بالله عز وجل ، وكانت النذور محمولةً على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها .
قوله تعالى : { وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ } فقال قائلون : معناه احفظوا أنفسكم من الحِنْثِ فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية . وقال آخرون : أقلّوا من الأيمان ، على نحو قوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [ البقرة : 224 ] ، واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :
* قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ * إذَا بَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ *
وقال آخرون : معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها ، لأن حفظ الشيء هو مراعاته ؛ وهذا هو الصحيح ، فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منهيٍّ عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصيةً ، وقد قال عليه السلام : " مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْها فَلْيَأْتِ الّذي هو خَيْرٌ ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فأمره بالحنث فيها ؛ وقد قال الله تعالى : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } [ النور : 22 ] الآية ؛ رُوي أنها نزلت في شأن مِسْطَح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخَوْضِ في أمر عائشة ، وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه ، فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ، ففعل ذلك أبو بكر . وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحلّ الله لك } [ التحريم : 1 ] إلى قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } [ التحريم : 2 ] بالكفارة والرجوع عما حرَّم على نفسه . فثبت بذلك أنه غير منهيّ عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصيةً ، فغير جائز أن يكون معنى قوله : { وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ } نهياً عن الحنث . وأما من قال : إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت ؛ فقوله مرذولٌ ساقطٌ ، لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهياً عن اليمين ، كما لا يجوز أن يقال : " احفظ مالك " بمعنى أن لا تكسبه ؛ ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة الحنث لأداء الكفارة ، لأنه قال " قليل الألايا حافظ ليمينه " فأخبر بدياً بقلة أيمانه ، ثم قال : " حافظ ليمينه " ومعناه أنه مُرَاعٍ لها ليؤدّي كفارتها عند الحنث ؛ ولو كان على ما قال المخالف لكان تكراراً لما قد ذكره ، فصحّ أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث .
قوله تعالى : { إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } رُوي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين : " كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ " ؛ وقال عمر وعائشة : " أو صاعاً من تمر " ، وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكاً . وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين : " مدّ من بُرٍّ لكل مسكين " ، وهو قول مالك والشافعي .
مطلب : في الإطعام من غير تمليك
واختُلف في الإطعام من غير تمليك ، فرُوي عن علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة : " يغدّيهم ويعشّيهم " وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي . وقال الحسن البصري : " وجبة واحدة تجزي " . وقال الحكم : " لا يجزي الإطعامُ حتى يعطيهم " . وقال سعيد بن جبير : " مُدَّيْن من طعام ومُدّ لإدامه ، ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم " . ورُوي عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي : " يطعمهم أكْلَةً واحدة " ، ورُوي عن أنس مثل ذلك . وقال الشافعي : " لا يعطيهم جملةً ولكن يعطي كل مسكين مُدّاً " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْليكُمْ } فاقتضى ظاهره جوازَ الإطعام بالأكل من غير إعطاءٍ ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً } [ الإنسان : 8 ] قد عُقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ؟ ويقال : فلان يطعم الطعام ، وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه ، فلما كان الاسم يتناول الإباحة وَجَبَ جوازُه ، وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك ، فالتمليك أحْرَى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ؛ ولا خلاف في جواز التمليك ، وإنما قالوا : " يغدّيهم ويعشيهم " لقوله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وهو مرّتان في اليوم غداءً وعشاءً ، لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان . وقد رَوَى ليثٌ عن ابن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا كان خُبْزاً يابِساً فهو غِدَاؤُه وعِشَاؤُه " . وإنما قال أصحابنا : إذا أعطاهم كان من البرّ نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعاً ، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى : " أَوْ أَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ سِتَّةَ مَسَاكِين " وفي حديث آخر : " أطْعِمْ سِتَّةً آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ سِتَّةَ مَسَاكِينٍ " فجعل لكل مسكين صاعاً من تمر أو نصف صاع من بُرٍّ ، ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين ، فثبت أن كفارة اليمين مثلها . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار : " وسْقاً مِنْ تَمْرٍ لستِّينَ مِسْكِيناً " والوسق ستون صاعاً . ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتّفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام ، وإذا ثبت من التمر صاعٌ وجب أن يكون من البُرِّ نصف صاع ، لأن كل من أوجب فيها صاعاً من التمر أوجب من البر نصف صاع .
قوله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، رُوي عن ابن عباس قال : " كان لأهل المدينة قُوتٌ وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحرّ أكثر مما للمملوك ، فنزلت : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ليس بأفضله ولا بأخسّه " ، ورُوي عن سعيد بن جبير مثله . قال أبو بكر : بيّن ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار ، لا بأن يكون مأدوماً . ورُوي عن ابن عمر قال : " أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت ، وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم " ، وعن عبيدة : " الخبز والسمن " . وقال أبو رزين : " الخبز والتمر والخلّ " .
وقال ابن سيرين : " أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز " ، ورُوي عن عبدالله بن مسعود مثله .
قال أبو بكر : أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر أن يكفِّرَ عن الظّهار بإعطاء كل مسكين صاعاً من تمر ، ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام ؛ وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصُع من طعام على ستة مساكين ، ولم يأمره بالإدام ولا فرّق عند أحد بين كفارة الظهار وكفّارة اليمين في مقدار الطعام ، فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأوسَطَ المراد بالآية الأوْسَطُ في مقدار الطعام لا في ضمّ الإدام إليه .
مطلب : في الاحتجاج في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع
وقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } عمومٌ في جميع من يقع عليه الاسم منهم ، فيصحّ الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع ؛ لأنّا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض ، لا سيّما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق ، وهو قول أصحابنا . وقال مالك والشافعي : لا يجزي .
فإن قال قائل : لما ذكر عشرة مساكين لم يَجُزِ الاقتصار على من دونهم ، كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] ، وقوله تعالى : { أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها ، كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور . قيل له : لما كان القصدُ في ذلك سَدَّ جَوْعَةِ المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سَدُّ الجوعة ، فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجوداً في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام ، وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع إذْ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين ، كما قال تعالى : { يسألونك عن الأهلّة } [ البقرة : 189 ] وهو هلال واحد ، فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار ، ولو استنجَى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه . وكذلك أُمر برمي الجمار بسبع حصيات ، ولو رَمَى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه ؛ لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات ، والمقصد في الاستنجاء حصول المسحات دون عدد الأحجار . فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سَدَّ جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك عليه في الأيام وبين الجماعة . ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } ومعلوم أن كسوتهم عَشرةُ أثواب ، فصار تقديره : " أو عشرة أثواب " ثم لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة ، فوجب أن يُجزي إعطاؤها لواحد منهم ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كِسْوَةَ عَشَرَةِ مساكين مسكيناً واحداً ؟ فقوله تعالى : { أوْ كِسْوَتُهُمْ } يدلّ من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ، ويدل أيضاً من الوجه الذي دلّ عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ، ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكيناً واحداً إلاّ أن يعطيه كل يوم ثوباً ؛ لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام ، وجب مثله في الكسوة إذْ لم يفرق واحد بينهما .
مطلب : أجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة
وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة ، لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة . ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر ، وجب مثله في الكفارة ؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما ، ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعْطَى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال : قد أطعمه وكساه ؛ وإذا كان إطلاق ذلك سائغاً انتظمه لفظ الآية ، ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ؟ ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه ، وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه ، وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل ؛ وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يَكْتَسِ بها وباعها ، وإن لم يكن له كاسياً بإعطائه إذ كان موصلاً إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه فثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والاكتساء ، وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال ، فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّر في صدقة الفطر نصف صاع من بُرٍّ أو صاعاً من تمر أو شعير ثم قال : " أغْنُوهُمْ عَنِ المَسْأَلَةِ في هذا اليَوْمِ " ؟ فأخبر أن المقصود حصول الغِنَى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه ، إذ كان الغِنَى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام .
فإن قال قائل : لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدةٌ مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال ، وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالةٌ على أنه غير جائز أن يتعدّاهما إلى القيمة ، وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة . قيل له : ليس الأمر على ما ظننتَ ؛ وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد ، وذلك أنه ذكرهما ودلّنا بما ذكر على جواز إعطاء قيمتهما ليكون مخيّراً بين أن يعطي حنطة أو يطعم أو يكسو أو يعطي دراهم قيمةً عن الحنطة أو عن الثياب ، فيكون موسعاً في العدول عن الأرْفع إلى الأوْكَسِ إن تفاوت القيمتان ، أو عن الأوْكَسِ إلى الأَرْفَعِ ، أو يعطي أيَّ المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وَمَنْ وَجَبَتْ في إِبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تُوجَدْ أُخِذَ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَشَاتَانِ أو عِشْرُونَ دِرْهماً " فخيّره في ذلك ، وهو يقدر على أن يشتري بنت لبون وهي الفرض المذكور ؛ وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضاً قيمة للإبل على اختلافهم فيها ، وكمن تزوج امرأةً على عبد وسط فإن جاء به بعينه قُبل منه وإن جاء بقيمته قُبلت منه أيضاً . ولم يُبْطِلْ جوازُ أخذ القيمة في هذه المواضع حُكْمَ التسمية لغيرها ، فكذلك ما وَصَفْنا ، ألا ترى أنه خيّره بين الكسوة والطعام والعتق ؟ فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخيَّرٌ بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوْكَس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض ، وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة إن المفروض منها مقدار آية ، فإن أطال القراءة كان الجميعُ هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يُسمَّى به راكعاً ، فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه ، ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان مُدْرِكُهُ في آخر الركوع مدركاً لركعته ؟ وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة ، فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضاً .
مطلب : في مقدار الكسوة في الكفارة
وقد اختُلف في مقدار الكسوة ، فقال أصحابنا : " الكسوة في كفّارة اليمين لكل مسكين ثوبٌ إزارٌ أو رداءٌ أو قميصٌ أو قباءٌ أو كساءٌ " . ورَوَى ابن سماعة عن محمد أن السراويل تُجْزي ، وأنه لو حلف لا يشتري ثوباً فاشترى سراويل حنث إذا كان سراويل الرجال . وروى هشام عن محمد أنه لا يجزي السراويل ولا العمامة ؛ وكذلك رَوَى بِشْرٌ عن أبي يوسف . وقال مالك والليث : " إن كسا الرجل كسا ثوباً وللمرأة ثوبين درعاً وخماراً ، وذلك أدنى ما تُجزي فيه الصلاة ، ولا يُجزي ثوبٌ واحد للمرأة ولا تجزي العمامة " . وقال الثوري : " تجزي العِمَامة " . وقال الشافعي : " تجزي العِمَامَةُ والسراويلُ والمقنعة " . قال أبو بكر : رُوي عن عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس والزهري : " ثوبٌ لكل مسكين " . قال أبو بكر : ظاهره يقتضي ما يسمَّى به الإنسانُ مكتسياً إذا لبسه ، ولابسُ السراويل ليس عليه غيره أو العِمَامة ليس عليه غيرها لا يسمَّى مكتسياً كلابس القلنسوة ، فالواجب أن لا يجزي السراويلُ والعمامةُ ولا الخِمَارُ لأنه مع لبسه لأحد هذه الأشياء يكون عرياناً غير مُكْتَس ، وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعمّ بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسي ، فلذلك أجزأه .
قوله تعالى : { أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني عِتْق رقبة ، وتحريرُها إيقاعُ الحريّة عليها . وذكر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيهاً له بالأسير الذي تُفكّ رقبته ويُطلق ، فصارت الرقبة عبارة عن الشخص ؛ وكذلك قال أصحابنا إذا قال : " رقبتك حرة " إنه يعتق ، كقوله " أنت حرّ " . واقتضى اللفظ رقبةً سليمة من العاهات لأن اسم للشخص بكماله ، إلا أن الفقهاء اتّفقوا على أن النقص اليسير لا يمنع جوازها ، فاعتبر أصحابنا بقاء منفعة الجنس في جوازها وجعلوا فوات منفعة الجنس من تلك الأعضاء مانعاً لجوازها .
قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } ؛ رَوَى مجاهدٌ عن عبدالله بن مسعود وأبو العالية عن أُبيّ : " فصيام ثَلاثَةِ أيام متتابعات " . وقال إبراهيم النخعي : في قراءتنا : " فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ مُتَتابِعَاتٍ " . وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس : " هن متتابعات لا يُجزي فيها التّفريق " . فثبت التتابعُ بقول هؤلاء . ولم تثبت التلاوة . لجواز كون التلاوة منسوخةً والحكم ثابتاً ، وهو قول أصحابنا . وقال مالك والشافعي : " يجزي فيه التفريق " . وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه .
وقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } يقتضي إيجابَ التكفير مع القدرة مع بقاء الخطاب بالكفارة ، وإنما يجوز الصوم مع عدم المذكور بدياً لأنه قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ } فنقله عن أحد الأشياء الثلاثة إلى الصوم عند عدمها ، فما دام الخطاب بالكفارة قائماً عليه لم يُجْزِهِ الصومُ مع وجود الأصل ، ودخولُه في الصوم لم يسقط عنه الخطاب بأحد الأشياء الثلاثة . والدليل عليه أنه لو دخل في صوم اليوم الأول ثم أفسده وهو واجدٌ للرقبة لم يُجْزِ الصومُ مع وجودها ، فثبت بذلك أن دخوله في الصوم لم يسقط عنه فرض الأصل ، فلا فرق بين وجود الرقبة قبل الدخول في الصوم وبعده ، إذْ كان الخطاب بالتكفير قائماً عليه في الحالين .