قال أبو بكر : لما قال تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } كان ذلك عموماً في حَظْرِ جميع ضروب المسيس من لَمْس بيد أو غيرها ، وأيضاً لما قال : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها ، وجب أن يكون ذلك التحريم عامّاً في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأمّ ومَسِّه محرم عليه .
وأيضاً حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا زياد بن أيوب قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة : أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفِّر ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، قال : " فاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ " ؛ ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وقال : " لا تَقْرَبْها حَتَّى تُكَفِّرَ " ، وذلك يمنع المسيس والقبلة .
في ظهار المرأة من زوجها :
قال أصحابنا : " لا يصحّ ظهار المرأة من زوجها " ، وهو قول مالك والثوري والليث والشافعي .
وذكر الطحاويّ عن ابن أبي عمران عن عليّ بن صالح عن الحسن بن زياد أنها إذا قالت لزوجها أنْتَ عليَّ كظهر أمي أو كظهر أخي كانت مظاهرةً من زوجها ، قال عليّ : فسألتُ محمد بن الحسن فقال : ليس عليها شيءٌ ، فأتيتُ أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال : هذان شَيْخَا الفقه أخْطَئا ، هو تحريمٌ عليها كفّارَةُ يَمينٍ كقولها أنْتَ عليَّ حرام . وقال الأوزاعي : " هي يمين تكفّرها " ، وقال الحسن بن صالح : " تُعْتِقُ رقبة وتكفّر بكفّارة الظهار ، فإن لم تفعل وكفّرت يميناً رَجَوْنا أن يجزيها " ، وروى مغيرة عن إبراهيم قال : خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت : هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته ، فلما وَلي الإمارة أرسل إليها ، فأرسلت تسأل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير ، فأفتوها أن تعتق رقبة وتزوَّجه ؛ وقال إبراهيم : لو كانت عنده يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عِتْقُ رقبة ، ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت .
ورُوي عن الأوزاعي أنها إذا قالت : " إن تزوجتهُ فهو عليَّ كظهر أبي " كانت مظاهرةً ، ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفّارة يمين . قال أبو بكر : لا يجوز أن تكون عليها كفارة يمين لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل ، فكيف يلزمها ذلك ! كما أن قول الرجل : " أنت طالق " لا يكون غير طالق ، كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء ولا يصح منها ظهار بهذا القول ؛ لأن الظهار يوجب تحريماً بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق إذْ كان موضوعاً لتحريم يقع بالقول .
واختلفوا فيمن قال أنت عليّ كظهر أبي ، فقال أصحابنا والأوزاعي والشافعي : " ليس بشيء " ، وقال مالك : " هو مظاهر " . قال أبو بكر : إنما حكم الله تعالى بالظهار فيمن شبّهها بظهر الأمّ ومن جَرَى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال ، وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأبُ والأجنبيُّ في ذلك سواء ، ولو قال : " أنتِ عليّ كظهر الأجنبيّ " لم يكن شيئاً ، فكذلك ظهر الأب .
واختلفوا فيمن ظاهر مراراً ، فقال أصحابنا والشافعي : " عليه لكل ظهار كفّارةٌ إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة " . وقال مالك : " من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة ، وإن ظاهر ثم كفَّر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضاً " . وقال الأوزاعي : " عليه كفّارةٌ واحدةٌ وإن كان في مقاعد شتَّى " .
قال أبو بكر : الأصل أن الظهار لما كان سبباً لتحريم ترفعه الكفارة أن تجب بكل ظهار كفارةٌ ، إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة ، لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار . فإن قيل : قوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } يقتضي إيجاب كفارة واحدة وإن ظاهر مراراً ؛ لأن اللفظ لا يختصّ بالمرة الواحدة دون المرار الكثيرة .
قيل له : لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشْبَهَ اليمينَ ، فمتى حلف مراراً لزمه لكل يمين كفارة إذا حنث ، ولم يكن قوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } [ النساء : 23 ] موجباً للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة .
واختلفوا في المُظَاهِرِ هل يجبر على التكفير ؟ فقال أصحابنا : " لا ينبغي للمرأة أن تَدَعَهُ يَقْرَبُها حتى يكفّر " . وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال : سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاوناً ، قال : تَسْتَعدي عليه ؛ قال : وسألت أبا حنيفة ، فقال : تستعدي عليه . وقال مالك : " عليها أن تمنعه نفسها ويَحُول الإمام بينه وبينها " . وقول الشافعي يدلّ على أنه يحكم عليه بالتكفير . قال أبو بكر : قال أصحابنا : " يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضَرَبته " ، رواه هشام ؛ وهذا يدلّ على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقَّها من الجماع .
واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار ، فقال عطاء ومجاهد وإبراهيم وإحدى الروايتين عن الحسن : " يُجزي الكافر " ، وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح ، ورُوي عن الحسن : " أنه لا يجزي في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة " ، وهو قول مالك والشافعي .
قال أبو بكر : ظاهر قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يقتضي جواز الكافرة ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمظاهر : " أَعْتِقْ رَقَبَةً " ولم يشترط الإيمان ، ولا يجوز قياسها على كفّارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض ، ولأن فيه إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ .
واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة ، فقال أصحابنا : " إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس به غيرها لم يُجْزِهِ الصوم " ، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي . وقال الليث والشافعي : " من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم " ، قال الله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } فأوجب الرقبة بدياً على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها ، فلما كان هذا واجداً لها لم يُجْزِهِ غيره .
فإن قيل : هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم . قيل له : لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله وليس بمحظور عليه عند الجميع عِتْقُ هذه الرقبة ، فعلمنا أنه واجد .
واختلفوا في عِتْقِ أمّ الولد والمدَبَّر والمكاتَب ونحوهم في الكفارة ، فقال أصحابنا : " لا يجوز عِتْقُ أمّ الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدَّى شيئاً عن الكتابة ، ولا المدبر ، فإن لم يكن أدَّى شيئاً أجزأه ، وإن اشترى أباه ينوي به عن كفارته جاز ، وكذلك كل ذي رحم محرم ، ولو قال : كل عبد أشتريه فهو حرّ ، ثم اشترى عبداً ينويه عن كفارته لم يُجْزِهِ " . وقال زفر : " لا يجزي المكاتب وإن لم يكن أدَّى شيئاً " . وقال مالك : " لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد " . وقال الأوزاعي : " لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد " . وقال عثمان البتّي : " يجزي المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين " . وقال الليث : " يجزي أن يشتري أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه " . وقال الشافعي : " لا يجزي من إذا اشتراه عتق عليه ، ويجزي المدبر ولا يجزي المكاتب وإن لم يؤدِّ شيئاً ، ويجزي المعتق إلى سنين ولا تجزي أم الولد " .
قال أبو بكر : أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قِبَلِ أنهما قد استحقَّا العتق من غير جهة الكفارة ، ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما ؟ فمتى أعتقهما فإنما عجّل عِتْقاً مستَحقّاً ، وليس كذلك من قال له المولى : " أنت حرّ بعد شهر أو سنة " لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه ، ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه ؟ وأما المكاتب فإنه وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ ، وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفارة ، فإن أعتق المكاتب قبل أن يؤدي شيئاً فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبداً غير مُكَاتِبٍ ، وإن كان قد أدَّى شَيئاً لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بَدَلٌ فلا يجزي عن الكفارة ، وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزي إذا نوى لأن قبوله للشِّرَى بمنزلة قوله أنت حرّ ؛ والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " ، ومعلوم أن معناه : يعتقه بشرائه إياه ، فجعل شراءه بمنزلة قوله : " أنت حرّ " فأجزأ ، بمنزلة من قال لعبده : أنت حرّ .
واختلفوا في مقدار الطعام ، فقال أصحابنا والثوري : " لكلّ مسكين نِصْفُ صاعٍ بُرٌّ أو صاعُ تمرٍ أو شعيرٍ " . وقال مالك : " مُدٌّ بمُدِّ هشام ، وهو مدَّان إلا ثلثاً بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك من الحنطة ، وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر ، وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطاً من شبع الشعير والتمر " .
وقال الشافعي : " لكل مسكين مُدٌّ من طعام بلده الذي يقتات حنطة أو شعير أو أرز أو تمر أو أَقِطُّ ، وذلك بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعتبر مُدٌّ أُحْدِثَ بعده " . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري قالا : حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال : كنت امرءاً أُصيب من النساء ، وذكر قصة ظهاره من امرأته وأنه جامع امرأته وسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " حَرِّرْ رَقَبَةً " ، فقلت : والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها ! وضربتُ صفحة رقبتي ، قال : " فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " ، قال : وهل أصبت الذي أصبت إلاّ من الصيام ؟ قال : " فَأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتّينَ مِسْكِيناً " ، قلت : والذي بعثك بالحق نبياً لقد بتنا وحشين وما لنا طعام ! قال : " فانْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بني زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ فأَطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ ، وكُلْ أَنْتَ وعِيَالُكَ بَقِيَّتَها " .
فإن قيل : رَوَى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار : أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجُها أوس بن الصامت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إلى فُلانٍ فإنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عليه ثمَّ يَتَصَدَّق به على سِتِّينَ مِسْكِيناً " . وروى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبدالله بن حنظلة عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن خوله : " أن زوجها ظاهر منها ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يتصدّق بخمسة عشر صاعاً على ستّين مسكيناً " ، قيل له : قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً ، وهذا أوْلى لأنه زائد على خبرك . وأيضاً فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعانه بهذا القدر ، ولا دلالة فيه على أن ذلك جميع الكفارة ، وقد بيّن ذلك في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن يزيد بن زيدان زوج خولة ظاهر منها وذكر الحديث ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ؛ وهذا يدلّ على أنه أعانه ببعض الكفارة . وقد رُوي ذلك أيضاً في حديث يوسف بن عبدالله بن سلام ؛ رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبدالله عن يوسف بن عبدالله بن سلام قال : حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بعِذْقٍ من تمر وأعانته هي بعذق آخر ، وذلك ستّون صاعاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَصَدَّقْ به " .
واختلفوا في المُظَاهِرِ هل يجامع قبل أن يطعم ؟ فقال أصحابنا ومالك والشافعي : " لا يجامع حتى يطعم إذا كان فرضه الطعام " . وروى زيد بن أبي الزرقاء عن الثوري : " أنه إذا أراد أن يطأها قبل أن يطعم لم يكن آثماً " . وروى المعافى والأشجعي عن الثوري : " أنه لا يقربها حتى يطعم " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر بعدما ذكر عجزه عن الصيام : " ثمّ لا يَقْرَبُها حَتّى يُكَفِّرَ " . وأيضاً لما اتفق الجميع على أن الجماع محظور عليه قبل عِتْقِ الرقبة وجب بقاء حظره إذا عجز ، إذْ جائز أن يجد الرقبة قبل الإطعام فيكون الوطء واقعاً قبل العِتق .