قوله تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } ؛ وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة . فإن قيل : فقد قال الله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لما قَالُوا } ولم يخصص المذكورين في الثانية . قيل له : المذكورين في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى ، فوجب أن يكون خاصّاً في المسلمين دون غيرهم .
وأما قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فقد اختلف الناس فيه ، فرَوَى معمر عن طاوس عن أبيه : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } قال : " الوطء ، فإذا حَنَثَ فعليه الكفارة " .
وهذا تأويل مخالف للآية ؛ لأنه قال : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } . وقد رَوَى سفيان عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال : " إذا تكلم بالظهار لزمه " .
ورُوي عن ابن عباس : " أنه إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي لم تحلّ له حتى يكفّر " . ورُوي عن ابن شهاب وقتادة : " إذا أراد جماعها لم يَقْرَبْها حتى يكفر " .
وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العَوْدِ ، فقال أصحابنا والليث بن سعد : " الظهار يوجب تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة " ومعنى العَوْدِ عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدّمها . وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف : " لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفَّارة " .
وقال الثوري : " إذا ظاهر منها لم تحلّ له إلا بعد الكفّارة ، وإن طلّقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفّر " ، وهذا موافق لقول أصحابنا .
وقال ابن وهب عن مالك : " إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة ، فإن طلقها بعد الظهار ولم يُجْمعْ على إمساكها وإصابتها فلا كَفارةَ عليه ، وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسّها حتى يكفّر كفارة الظهار " .
وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منها ثم وطئها ثم ماتت فلا بدّ من الكفارة لأنه وطىء بعد الظهار .
وقال أشهب عن مالك : " إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها وطلب الكفّارة فماتت امرأته فعليه الكفارة " .
وقال الحسن : " إذا أجمع رأيُ المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة وإن أراد تركها بعد ذلك ؛ لأن العَوْدَ هو الإجماع على مجامعتها " .
وقال عثمان البتّي فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال : " أرى عليه الكفارة راجَعَها أو لم يراجِعْها ، وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفّر " .
وقال الشافعي : " إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلّق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت " .
وحُكي عن بعض من لا يُعَدُّ خِلافاً أن العَوْدَ أن يعيد القول مرتين .
قال أبو بكر : روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة فقال : لا أجد ، فقال : " صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " قال : لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يُغْشَى على بصري ، فأمره بالإطعام . وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها ؛ لأنه لم يسأله عن ذلك ، وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع ؛ لأنه لم يسأله ، وبطلان قول من اعتبر الطلاق ؛ لأنه لم يقل هل طلقتها ، وبطلان قول من اعتبر إعادة القول ؛ لأنه لم يسأله هل أعدت القول مرتين ؛ فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريماً ترفعه الكفارة .
ومعنى قوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يحتمل وجهين ، أحدهما : ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب ، وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار .
فقال : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } قبل هذه الحال { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } والمعنى : ويعودون بعد الإسلام إلى ذلك ، كما قال تعالى : { فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد } [ يونس : 46 ] ومعناه : والله شهيد ، فيكون نفس القول عوداً إلى العادة التي كانت لهم في ذلك ، كما قال : { حتى عاد كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] والمعنى : حتى صار كذلك ، وكما قال أمية بن أبي الصلت :
* هَذِي المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ * شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالا *
معناه : صارا كذلك لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك . وكما قال لبيد :
* وَما المَرْءُ إلاّ كالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ * يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ *
ويحور يرجع ، وإنما معناه ههنا يصير رماداً ؛ كذلك : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية .
والوجه الآخر : أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجابُ تحريم الوطء موقتاً بالكفارة ، فإذا كان الظهار مخصوصاً بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العَوْدُ هو العَوْد إلى استباحة ما حرّمه بالظهار ، فيكون معناه : يعودون للمقول فيه ، كقوله عليه السلام : " العَائِدُ في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ " وإنما هو عائد في الموهوب ، وكقولنا : اللهم أنت رجاؤنا ، أي مَنْ رَجَوْنَا ؛ وقال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] يعني : الموقن به . وقال الشاعر :
* أَخْبِرْ مَنْ لاقَيْتَ أَنْ قَدْ وَفَيْتُمْ * وَلو شِئْتَ قَالَ المُنَبِّؤُونَ أَسَاؤُوا *
* وإِنِّي لرَاجِيكُمْ على بُطْءِ سَعْيِكُمْ * كما فِي بُطُونِ الحَامِلاتِ رَجَاءُ *
يعني مَرْجُوّاً . وكذلك قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } معناه : لما حرموا ، فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة . ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين ، أحدهما : أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العَوْدُ إمساكها على النكاح ، لأن العود لا محالة قد اقتضى عَوْداً إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه ، فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير . والثاني : أنه قال : { ثُمَّ يَعُودُونَ } و " ثم " يقتضي التراخي ، ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائداً عقيب القول بلا تراخٍ وذلك خلاف مقتضى الآية ، وأما من جعل العَوْدَ العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضاً ؛ لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة ، والعزيمةُ على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء ، فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها . وأيضاً لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا تتعلق بها الأحكام ، ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الله عَفَا لأُمَّتي عما حدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا ما لم يَتَكَلَّمثوا به أَوْ يَعْمَلوا به " .
فإن قيل : هلاّ كان العود إعادة القول مرتين ، لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه ! قيل له : هذا خطأ من وجهين ، أحدهما : أن إجماع السلف والخلف جميعاً قد انعقد بأن هذا ليس بمراد ، فقائله خارج عن نطاق الإجماع . والثاني : أنه يجعل قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } تكراراً للقول واللفظ مرتين ، والله تعالى لم يقل ثم يكررون القول مرتين ، ففيه إثبات معنى لا يقتضيه اللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه ، وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة ، فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها .
فإن قيل : وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر . قيل له : إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول ، فجاز أن يكون ذلك عَوْداً لما قال ؛ إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عوداً لما قال من إيجاب التحريم . ومن جهة أخرى أن الوطء إذا كان مستحقاً بعقد النكاح وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار ، جاز أن يكون الإقدام على استباحته عوداً لما حرّم فكان هذا المعنى مطابقاً للفظ .
فإن قيل : إن كانت الاستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الاستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء ، فإن كان المراد الأوّل فهذا يُلْزِمك إيجابَ الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن بن صالح ، وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء ، وهذا خلاف الآية وليس هو قولك أيضاً . قيل له : المعنى في ذلك هو ما قد بيَّنا من الإقدام على استباحة الوطء ، فقيل له : إذا أردت الوَطْءَ وعدت لاستباحة ما حرمته فلا تطأْ حتى تكفر ، لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم ، كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] يعني فقدِّم الاستعاذة قبل القراءة ، وقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] والمعنى : إذا أردتم القيام وأنتم مُحْدِثُون فقدّموا الغسل ، وقوله : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } [ المجادلة : 12 ] ، وكقوله : { إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] والمعنى : إذا أردتم ذلك .
قال أبو بكر : قد ثبت بما قدّمنا أن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء ولا يرتفع إلا بالكفارة ، فإذا لم يُرِدْ وَطْأَها فلا كفّارة عليه ، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه ، إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتاً بأداء الكفارة ، وأنه متى لم يكفِّرْ فالوطء محظور عليه فإن وَطِىءَ سقط الظهار والكفارة ، وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ، فمتى وقع المَسِيسُ فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية ؛ لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعُدِمَ الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني . فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير ، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " اسْتَغْفِرِ الله ولا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ " فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة .
وقد اختلف السلف فيمن وطىء ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده ، فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب : " ليس عليه إلا كفارة واحدة " ، وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين . وقد رُوي عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب والزهري وقتادة : " عليه كفارتان " .
قال : ورُوي عن ابن عباس أن رجلاً قال : يا رسول الله ظاهرت من امرأتي فجامعتها قبل أن أكفر ؟ فقال : " اسْتَغْفِرِ الله ولا تَعُدْ حَتّى تُكَفِّرَ " فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء .
واختلف الفقهاء في توقيت الظهار ، فقال أصحابنا والثوري والشافعي : " إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضيِّ اليوم " ، وقال ابن أبي ليلى ومالك والحسن بن صالح : " هو مظاهر أبداً " . قال أبو بكر : تحريم الظهار لا يقع إلا موقّتاً بأداء الكفارة ، فإذا وَقَّته المظاهرُ وجب توقيته لأنه لو كان مما لا يُتَوَقَّت لما انحلّ ذلك التحريم بالتكفير كالطلاق ، فأشبه الظهار اليمين التي يحلّها الحنث ، فوجب تَوْقِيتُه كما يتوقت اليمين وليس كالطلاق لأنه لا يحلّه شيء .
فإن قيل : تحريم الطلاق الثلاث يقع موقتاً بالزوج الثاني ولا يتوقت بتوقيت الزوج إذا قال أنت طالق اليوم . قيل له : إن الطلاق لا يتوقت بالزوج الثاني ، وإنما يستفيد الزوج الأول بالزوج الثاني إذا تزوجها بعد ثلاث تطليقات مستقبلات والثلاث الأُول واقعة على ما كانت ، وإنما استفاد طلاقاً غيرها ، فليس في الطلاق توقيتٌ بحال ، والظهار موقت لا محالة بالتكفير فجاز توقيته بالشرط .
واختلفوا في الظهار هل يدخل عليه إيلاء ؟ فقال أصحابنا والحسن بن صالح والثوري في إحدى الروايتين والأوزاعي : " لا يدخل الإيلاءُ على المظاهر وإن طال تركه إياها " . ورَوَى ابن وهب عن مالك : " لا يدخل على حرّ إيلاء في ظهار إلا أن يكون مضارّاً لا يريد أن يَفيءَ من ظهاره ، وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاءٌ " . وقال ابن القاسم عنه : " يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارّاً ومما يعلم به ضراره أن يقدر على الكفّارة فلا يكفّر ، فإنه إذا علم ذلك وقف مثل المولى فإما كفر وإما طلقت عليه امرأته " . وروي عن الثوري أن الإيلاء يدخل على الظهار . قال أبو بكر : ليس الظهار كنايةً عن الطلاق ولا صريحاً ، فلا يجوز إثبات الطلاق به إلا بتوقيف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَدْخَلَ في أَمْرِنَا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " ، ومن أدخل الإيلاء على المُظاهِرِ فقد أدخل عليه ما ليس منه . وأيضاً نصَّ الله على حكم المولى بالفيء أو عزيمة الطلاق ونصَّ على حكم المظاهر بإيجاب كفارة قبل المسيس ، فحُكْمُ كل واحد منهما منصوصٌ عليه ، فغير جائز حَمْلُ أحدهما على الآخر ، إذْ مِنْ حكْم المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض وأن كل واحد منها مُجْرى على بابه ومحمول على معناه دون غيره . وأيضاً فإن معنى الإيلاء وقوع الحِنْثِ ووجوب الكفّارة بالوطء في المدة ، ولا تتعلق كفّارةُ الظهار بالوطء فليس هو إذاً في معنى الإيلاء ولا في حكمه . وأيضاً فإن المولى سواءٌ قصد الضِّرار أو لم يقصد لا يختلف حكمه ، وقد اتفقنا أنه متى لم يقصد الضرار بالظهار لم يَلْزَمْه حكم الإيلاء بمضيِّ المدة ، فوجب أن لا يلزمه وإن قصد الضرار .
فإن قيل : لم يُعتبر ذلك في الإيلاء لأن نفس الإيلاء يُنبىء عن قصد الضرار ، إذْ هو حَلْفٌ على الامتناع من الوطء في المدة . قيل له : الظهار قَصْدٌ إلى الضرار من حيث حَرَّمَ وطأها إلا بكفارة يقدمها عليه ، فلا فرق بينهما فيما يقتضيانه من المضارّة .
واختلف السلف ومن بعدهم وفقهاء الأمصار في الظهار من الأَمَةِ ، فروى عبدالكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال : " من شاء باهَلْتُه أنه ليس من أَمَةٍ ظهارٌ " ، وهذا قول إبراهيم والشعبي وابن المسيب ، وهو قول أصحابنا والشافعي . ورُوي عن ابن جبير والنخعي وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار قالوا : " هو ظهار " ، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث والحسن بن صالح ، وقالوا : " يكون مظاهراً من أَمَتِهِ كما هو من زوجته " . وقال الحسن : " إن كان يطأها فهو مظاهر وإن كان لا يطأها فليس بظهار " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء ، والدليل عليه قوله تعالى : { أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] ، فكان المفهوم من قوله : { أو نسائهن } [ النور : 31 ] الحرائر ، لولا ذلك لما صح عطف قوله : { أو ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] عليه ؛ لأن الشيء لا يُعطف على نفسه ، وقال تعالى : { وأمهات نسائكم } [ النور : 31 ] فكان على الزوجات دون ملك اليمين . فلما كان حكم الظهار مأخوذاً من الآية وكان مقتضاها مقصوراً على الزوجات دون ملك اليمين ، لم يَجُزْ إيجابه في ملك اليمين ، إذْ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه . ووجه آخر ، وهو ما بيّنّا فيما سلف أنهم قد كانوا يطلّقون بلفظ الظهار ، فأبدل الله تعالى به تحريماً ترفعه الكفارة ، فلمّا لم يصحّ طلاق الأَمَةِ لم يصحّ الظهار منها . ووجه آخر ، وهو أن الظهار يوجب تحريماً من جهة القول يوجب الكفّارة ، والأَمَةُ لا يصحّ تحريمها من جهة القول ، فأشبه سائر المملوكات من الطعام والشراب متى حَرَّمها بالقول لم تَحْرُمْ ، ألا ترى أنه لو حرَّم على نفسه طعاماً أو شراباً لم يحرم ذلك عليه وإنما يلزمه إذا أكل أو شرب كفارة يمين ؟ فكذلك ملك اليمين وجب أن لا يصح الظهار منها إذْ لا يصح تحريمها من جهة القول .
واختلفوا فيمن قال : قال لامرأته أنت عليَّ كظهر أختي أو ذات محرم منه ، فقال أصحابنا : " هو مظاهر وإن قال كظهر فلانة وليست بمحرم منه لم يكن مظاهراً " ، وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي . وقال مالك وعثمان البتّي : " يصح الظهار بالمحرم والأجنبية " . وللشافعي قولان ، أحدهما : أن الظهار لا يصح إلا بالأمّ ، والآخر : أنه يصح بذوات المحارم .
قال أبو بكر : لما صحَّ الظهار بالأم وكانت ذوات المحارم كالأمّ في التحريم وجب أن يصحّ الظهار بهن ، إذ لا فرق بينهن في جهة التحريم ، ألا ترى أن الظهار بالأمّ من الرضاعة صحيح مع عدم النسب لوجود التحريم ؟ فكذلك سائر ذوات المحارم . ورُوي نحو قول أصحابنا عن جابر بن زيد والحسن وإبراهيم وعطاء . وقال الشعبي : " إن الله تعالى لم يَنْسَ أن يذكر البنات والأخوات والعمات إنما الظهار من الأمّ " . وأيضاً لما قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } اقتضى ظاهِرُهُ الظهار بكل ذات محرم ، إذْ لم يخصص الأم دون غيرها ، ومن قَصَرَهُ على الأم فقد خَصَّ بلا دليل .
فإن قيل : لما قال تعالى : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } دل على أنه أراد الظهار بالأمّ . قيل له : إنما ذكر الأمهات لأنهن مما اشتمل عليهنّ حَدُّ الآية ، وذلك لا ينفي أن يكون قوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } عموماً في سائر من أوقع التشبيه بظهرها من سائر ذوات المحارم .
وأيضاً فإن ذلك يدل على صحة الظهار من سائر ذوات المحارم ؛ لأنه قد نبّه على المعنى الذي من أجله ألزمه حكم الظهار ، وهو قوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً } ، فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم لأنهنّ لسن بأمهاتهم وأن قولهم هذا منكر من القول وزور ، فاقتضى ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم لأنه إذ ظاهر بأجنبية فليست هي أخته ولا ذات محرم منه ، وهذا القول منكر من القول وزور ؛ لأنه يملك بضع امرأته ، وهي مباحة له وذوات المحارم محرمات عليه تحريماً مؤبداً .
فإن قيل : يلزمك على هذا إيجاب الظهار بالأجنبية لعموم الآية ولدلالة فحواها على جواز الظهار بسائر ذوات المحارم ، إذْ لم تفرّق الآية بين شيء منهن ، ولأن تشبيهها بالأجنبية منكر من القول وزور . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن الأجنبية لما كانت قد تحلّ له بحال لم يكن قوله أنت عليّ كظهر الأجنبية مفيداً للتحريم في سائر الأوقات ، لجواز أن يملك بُضْعَ الأجنبية فتكون مثلها وفي حكمها . وأيضاً لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول أنت عليَّ كمتاع فلان أو كمال فلان ؛ لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه .
واختلفوا في الظهار بغير الظَّهْرِ ، فقال أصحابنا : " إذا قال أنت عليَّ كيد أمي أو كرأسها أو ذَكَر شيئاً يحلّ له النظر إليه منها لم يكن مظاهراً ، وإن قال كبطنها أو كفخذها ونحو ذلك كان مظاهراً ؛ لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر " .
وقال ابن القاسم : " قياس قول مالك أن يكون مظاهراً بكل شيء من الأمّ " .
وقال الثوري والشافعي : " إذا قال أنتِ عليَّ كرأسِ أمي أو كَيَدِها فهو مظاهرٌ لأن التلذُّذ بذلك منها محرم " .
قال أبو بكر : نَصَّ الله تعالى على حكم الظهار ، وهو أن يقول : " أنت عليَّ كظهر أمّي " والظهرُ مما لا يستبيح النظر إليه ، فوجب أن يكون سائر ما لا يستبيح النظر إليه في حكمه ، وما يجوز له أن يستبيح النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به إذ ليس تحريمها من الأمّ مطلقاً ، فوجب أن لا يصحّ الظهار به إذْ كان الظهار يوجب تحريماً . وأيضاً لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء أَشْبَهَ سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال والأملاك .
واختلفوا فيما يحرِّمُهُ الظهار ، فقال الحسن : " للمظاهر أن يجامع فيما دون الفَرْج " . وقال عطاء : " يجوز أن يقبل أو يباشر لأنه قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } " .
وقال الزهري وقتادة : " { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَماسَّا } الوقوع نفسه " .
وقال أصحابنا : " لا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبّل ولا ينظر إلى فَرْجِها لشهوة حتى يكفِّر " . وقال مالك مثل ذلك ، وقال : " لا ينظر إلى شعرها ولا صدرها حتى يكفّر لأن ذلك لا يدعوه إلى خير " . وقال الثوري : " يأتيها فيما دون الفرج وإنما نُهي عن الجماع " .
وقال الأوزاعي : " يحل له فوق الإزار كالحائض " .
وقال الشافعي : " يُمنع القبلة والتلذذ احتياطاً " .