باب القراءة خلف الإمام
قال الله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . قال أبو بكر : رُوي عن ابن عباس أنه قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وقرأ معه أصحابه فخلطوا عليه ، فنزل القرآن : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } . وروى ثابت بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال : " المؤمن في سَعَةٍ من الاستماع إليه إلا في صلاة مفروضة أو يوم جمعة أو فطر أو أضحى " . وروى المهاجر أبو مخلد عن أبي العالية قال : " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قرأ أصحابه أجمعون خلفه ، حتى نزلت : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } فسكت القوم وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وروى الشعبي وعطاء قالا : " في الصلاة " . وروى إبراهيم بن أبي حرة عن مجاهد مثله . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قراءة فتى من الأنصار وهو في الصلاة يقرأ ، فنزلت هذه الآية " . ورُوي عن سعيد بن المسيب أنه قرأ في الصلاة ، ورُوي عن مجاهد : أنه في الصلاة والخطبة . والخطبة لا معنى لها في هذا الموضع ؛ لأن موضع القرآن في الخطبة كغيره في وجوب الاستماع والإنصات . ورُوي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية . وهذا أيضاً تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية ؛ لأن الذي في الآية إنما هو أمْرٌ بالاستماع والإنصات . ورُوي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية . وهذا أيضاً تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية ؛ لأن الذي في الآية إنما هو أمْرٌ بالاستماع والإنصات لقراءة غيره ، لاستحالة أن يكون مأموراً بالاستماع والإنصات لقراءة نفسه ، إلا أن يكون معنى الحديث أنهم كانوا يتكلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت الآية ، فإن كان كذلك فهو في معنى تأويل الآخرين له على تَرْكِ القراءة خلف الإمام ؛ فقد حصل من اتفاق الجميع أنه قد أُريد ترك القراءة خلف الإمام والاستماع والإنصات لقراءته . ولو لم يثبت عن السلف اتفاقهم على نزولها في وجوب تَرْكِ القراءة خلف الإمام لكانت الآية كافية في ظهور معناها وعموم لفظها ووضوح دلالتها على وجوب الاستماع والإنصات لقراءة الإمام ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فإن قامت دلالة على جواز ترك الاستماع والإنصات في غيرها لم يبطل حكم دلالته في إيجابه ذلك فيها . وكما دلّت الآية على النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به فهي دالّةٌ على النهي فيما يُخْفَى ؛ لأنه أوجب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن ولم يشترط فيه حال الجهر من الإخفاء ، فإذا جهر فعلينا الاستماع والإنصات وإذا أَخْفَى فعلينا الإنصات بحكم اللفظ لعلمنا بأنه قارىء للقرآن .
وقد اختلف الفقهاءُ في القراءة خلف الإمام ، فقال أصحابنا وابن سيرين وابن أبي ليلى والثوري والحَسَن بن صالح : " لا يقرأ فيما جهر " . وقال الشافعي : " يقرأ فيما جهر وفيما أَسَرَّ " . وقال مالك : " يقرأ فيما أسرّ ولا يقرأ فيما جهر " . وقال الشافعي : " يقرأ فيما جهر وفيما أسَرّ " في رواية المزني ، وفي البويطي : " أنه يقرأ فيما أسرّ بأمّ القرآن وسورة في الأوليين وأم القرآن في الأخريين وفيما جهر فيه الإمام لا يقرأ من خلفه إلا بأمّ القرآن " ، قال البويطي : وكذلك يقول الليث والأوزاعي . قال أبو بكر : قد بيّنا دلالة الآية على وجوب الإنصات عند قراءة الإمام في حال الجهر والإخفاء ، وقال أهل اللغة : الإنصات الإمساك عن الكلام والسكوت لاستماع القراءة ، ولا يكون القارىء مُنْصِتاً ولا ساكتاً بحال ؛ وذلك لأن السكوت ضد الكلام ، وهو تسكين الآلة عن التحريك بالكلام الذي هو حروف مقطعة منظومة ضرباً من النظام ، فهما يتضادان على المتكلم بآلة اللسان وتحريك الشفة ، ألا ترى أنه لا يقال ساكت متكلم كما لا يقال ساكن متحرك ؟ فمن سكت فهو غير متكلم ومن تكلم فهو غير ساكت .
فإن قال قائل : قد يسمَّى مُخْفي القراءة ساكتاً إذا لم تكن قراءته مسموعة ؛ كما رَوَى عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر سكت بين التكبير والقراءة " فقلت له : بأبي أنت وأمي أرأيت سكتاتك بين التكبير والقراءة أخبرني ما تقول ؟ قال : " أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطَايَايَ كما بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ " وذكر الحديث ، فسماه ساكتاً وهو يدعو خفيّاً ، فدل ذلك على أن السكوت إنما هو إخفاء القول وليس بتركه رأساً . قيل له : إنما سميناه ساكتاً مجازاً ؛ لأن من لا يسمعه يظنه ساكتاً ، فلما أشبه الساكت في هذا الوجه سماه باسمه لقرب حاله من حال الساكت ، كما قال تعالى : { صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] تشبيهاً بمن هذه حاله ، وكما قال في الأصنام : { وتراهم ينظرون إليك } [ الأعراف : 198 ] تشبيهاً لهم بمن ينظر وليس هو بناظر في الحقيقة . فإن قيل : لا يقرأ المأموم في حال قراءة الإمام وإنما يقرأ في حال سكوته ، وذلك لما رَوَى الحسن عن سَمُرَةَ بن جندب قال : " كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في صلاته إحداهما قبل القراءة والأخرى بعدها " ، فينبغي للإمام أن تكون له سَكْتَةٌ قبل القراءة ليقرأ الذين أدركوا أول الصلاة فاتحة الكتاب ثم ينصت لقراءة الإمام ، فإذا فرغ سكت سكتة أخرى ليقرأ من لم يدرك أول الصلاة فاتحة الكتاب . قيل له : أما حديث السكتتين فهو غير ثابت ولو ثبت لم يدلّ على ما ذكرت ؛ لأن السكتة الأولى إنما هي لذكر الاستفتاح ، والثانية إن ثبتت فلا دلالة فيها على أنها بمقدار ما يقرأ فاتحة الكتاب وإنما هي فصل بين القراءة وبين تكبير الركوع لئلا يظن من لا يعلم أن التكبير من القراءة إذا كان موصولاً بها ، ولو كانت السكتتان كل واحدة منهما بمقدار قراءة فاتحة الكتاب لكان ذلك مستفيضاً ونقله شائعاً ظاهراً ، فلما لم ينقل ذلك من طريق الاستفاضة مع عموم الحاجة إليه إذْ كانت مفعولة لأداء فرض القراءة من المأموم ثبت أنهما غير ثابتتين . وأيضاً فإن سبيل المأموم أن يتبع الإمام ، ولا يجوز أن يكون الإمام تابعاً للمأموم ، فعلى قول هذا القائل يسكت الإمام بعد القراءة حتى يقرأ المأموم ، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم : " إنّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " ثم مع ذلك يكون الأمر على عكس ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " وَإِذَا قُرَأَ فأَنْصِتُوا " فأمر المأموم بالإنصات للإمام ، وهو يأمر الإمام بالإنصات للمأموم ويجعله تابعاً له ، وذلك خُلْفٌ من القول ؛ ألا ترى أن الإمام لو قام في الثنتين من الظهر ساهياً لكان على المأموم اتباعه ، ولو قام المأموم ساهياً لم يكن على الإمام اتباعه ، ولو سها المأموم لم يسجد هو ولا إمامه للسهو ، ولو سها الإمام ولم يَسْهَ المأموم لكان على المأموم اتباعه ؟ فكيف يجوز أن يكون الإمام مأموراً بالقيام ساكتاً ليقرأ المأموم .
وقد رُوي في النهي عن القراءة خلف الإمام آثارٌ مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنحاء مختلفة ، فمنها حديث قتادة عن أبي غلاب يونس بن جبير عن حِطّان بن عبدالله عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فَأَنْصِتُوا " ، وحديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا " . فهذان الخبران يوجبان الإنصاتَ عند قراءة الإمام . وقوله : " إنَّما جُعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فأنصتوا " إخبارٌ منه أن من الائتمام بالإمام الإنصات لقراءته ، وهذا يدل على أنه غير جائز أن ينصت الإمام لقراءة المأموم ؛ لأنه لو كان مأموراً بالإنصات له لكان مأموراً بالائتمام به ، فيصير الإمام مأموماً والمأموم إماماً في حالة واحدة ، وهذا فاسد .
ومنها حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمَامِ لَهُ قِرَاءةٌ " رواه جماعة عن جابر ، وفي بعض الألفاظ : " إِذَا كَانَ لَكَ إِمَامٌ فَقِرَاءَتُهُ لَكَ قِرَاءَةٌ " . ومنها حديث عمران بن حُصَيْن : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن القراءة خلف الإمام " ، رواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين . وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في شرح مختصر الطحاوي .
ومنها حديث مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاجٌ " وفي بعضها : " لم يُصَلِّ إِلاّ وَرَاءَ الإمَامِ " ، فأخبر أن ترك قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام لا يوجب نقصاناً في الصلاة ، ولو جاز أن يقرأ لكان تركها يوجب نقصاً فيها كالمنفرد . ورَوَى مالك عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة الليثي عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : " هَلْ قَرَأَ مَعي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفاً ؟ " قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : " إِنّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآن " قال : فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله لما قال صلى الله عليه وسلم : " هل قرأ معي أحد منكم " ؛ دل ذلك على أن القارىء خلفه أَخْفَى قراءته ولم يجهر بها ؛ لأنه لو كان جهر بها لما قال : " هل قرأ معي أحد منكم " ثم قال : " إني أقول ما لي أنازع القرآن " ، وفي ذلك دليل على استواء حكم الصلاة التي يجهر فيها والتي تخافت لإخباره أن قراءة المأموم هي الموجبة لمنازعة القرآن . وأما قوله : " فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله " فلا حجة فيه لمن أجاز القراءة خلف الإمام فيما يُسِرُّ فيه ، مِنْ قِبَلِ أن ذلك قول الراوي وتأويل منه ، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين حال الجهر والإخفاء .
ومنها حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي الأحْوَصِ عن عبدالله قال : كنا نقرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " خَلَّطْتُمْ عَليَّ القُرْآنَ " . وهذا أيضاً يدل على التسوية بين حال الجهر والإخفاء إذ لم يذكر فرقاً بينهما . وروى الزهري عن عبدالرّحمن بن هرمز عن ابن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ آنِفاً في الصَّلاةِ ؟ " قالوا : نعم ، قال : " فإِنّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآن " ، قال : فانتهى الناس عن القراءة معه منذ قال ذلك ، فأخبر في هذا الحديث عن تركهم القراءة خلفه ولم يفرق بين الجهر والإخفاء ؛ فهذه الأخبار كلها توجب النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يسرّ . ومما يدل على ذلك ما رُوي عن جُلّة الصحابة من النهي عن القراءة خلف الإمام وإظهار النكير على فاعله ، ولو كان ذلك شائعاً لما خفي أمره على الصحابة لعموم الحاجة إليه ، ولكان من الشارع توقيفٌ للجماعة عليه ولعرفوه كما عرفوا القراءة في الصلاة ، إذ كانت الحاجة إلى معرفة القراءة خلف الإمام كهي إلى القراءة في الصلاة للمنفرد والإمام ، فلما رُوي عن جُلَّة الصحابة إنكار القراءة خلف الإمام ثبت أنها غير جائزة .
فممن نَهَى عن القراءة خلف الإمام عليٌّ وابنُ مسعود وسعد وجابر وابن عباس وأبو الدرداء وأبو سعيد وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس . رَوَى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال : " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفِطْرَة " . وروى أبو إسحاق عن علقمة عن عبدالله عن زيد بن ثابت قال : " من قرأ خلف الإمام مُلىءَ فوه تراباً " . وروى وكيع عن عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال : " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له " . وقال أبو حمزة : قلت لابن عباس : اقرأ خلف الإمام ؟ قال : لا . وقال أبو سعيد : " يكفيك قراءة الإمام " . قال أنس : " القراءة خلف الإمام التسبيح " يعني والله أعلم : التسبيح في الركوع وذكر الاستفتاح . وقال منصور عن إبراهيم : " ما سمعنا بالقراءة خلف الإمام حتى كان المختار الكذاب فاتّهموه فقرؤوا خلفه " . وقال سعد : " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة " .
واحتجَّ موجبو القراءة خلف الإمام بحديث محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فتعامى عليه القراءة ، فلما سلَّم قال : " أَتَقْرَؤُونَ خَلْفِي ؟ " قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : " لا تَفْعَلُوا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فإنَّهُ لا صَلاَةَ لمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا " . وهذا حديث مضطرب السند مختلف في رفعه ، وذلك أنه رواه صدقةَ بن خالد عن زيد بن واقد عن مكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة عن عبادة ، ونافع بن محمود هذا مجهول لا يُعرف . وقد رَوَى هذا الحديث ابن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع موقوفاً على عبادة لم يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد رَوَى أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل بوجهه فقال : " أَتَقْرَؤُونَ والإِمَامُ يَقْرَأُ ؟ " فسكتوا ، فسألهم ثلاثاً فقالوا : إنا لنفعل ، فقال : " لا تفْعَلُوا " ، فلم يذكر فيه استثناء فاتحة الكتاب . وإنما أصل حديث عبادة ما رواه يونس عن ابن شهاب قال : أخبرني محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صَلاةَ لمَنْ لَمْ يَقْرَأْ القُرْآنَ " . فلما اضطرب حديث عبادة هذا الاضطراب في السند والرفع والمعارضة لم يجز الاعتراض به على ظاهر القرآن والآثار الصحاح النافية للقراءة خلف الإمام .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صَلاةَ إِلاّ بأُمِّ القُرْآنِ " فليس فيه إيجاب قراءتها خلف الإمام ؛ لأن هذه صلاة بأم القرآن ، إذ كانت قراءة الإمام له قراءة ، وكذلك حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَلَّى صَلاةً لم يَقْرَأْ فِيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاجٌ غَيْرُ تمامٍ " فقلت : يا أبا هريرة إني أكون أحياناً خلف الإمام ؟ فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك . فلا حجة لهم فيه ؛ لأن أكثر ما فيه أنها خِدَاجٌ والخِدَاجُ إنما هو النقصان ، ويدل على الجواز لوقوع اسم الصلاة عليها ، وأيضاً فإنه في المنفرد ليجمع بينه وبين الآية ، والأخبار التي قدمناها في نفي القراءة خلف الإمام . وأما قول أبي هريرة : " اقرأ بها في نفسك " فإنه لم يَعْزُ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله لا تثبت به حجة .
ومما يدل على أن أخبارنا أوْلى اتفاقُ الجميع على استعمالها في النهي عن القراءة خلف الإمام في حال جهر الإمام ، وخبرهم مختَلفٌ فيه ، فكان ما اتفقوا على استعماله في حال أوْلَى مما اختلف فيه .
فإن قيل : تستعمل الأخبار كلها ، فيكون أخبار النهي فيما عدا فاتحة الكتاب وأخبار الأمر بالقراءة في فاتحة الكتاب . قيل له : هذا يَبْطُلُ بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا " وقوله : " مَا لي أُنَازَعُ القُرْآن " والقرآن لا يختص بفاتحة الكتاب دون غيرها ، فعلمنا أنه أراد الجميع . وقال في حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ صَلاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فهي خِدَاجٌ إِلاَّ وَرَاءَ الإِمَامِ " فنصّ على تركها خلف الإمام ، وذلك يبطل تأويلك وقولك باستعمال الأخبار بل أنت رادّها غير مستعمل لها .
فإن قيل : ما استدللتَ به من قول الصحابة لا دليل فيه ؛ لأنهم قد خالفهم نظراؤهم ، فمن ذلك ما رواه عبدالواحد بن زياد قال : حدثنا سليمان الشيباني عن جوّاب عن يزيد بن شريك قال : قلت لعمر بن الخطاب : أَوَ سَمِعْتَ رجلاً قال له اقرأ خلف الإمام ؟ قال : نعم ، قال : قلت : وإن قرأ ؟ قال : وإن قرأ . وروى شعبة عن أبي الفيض عن أبي شيبة ، قال معاذ : " إذا كنت تسمع قراءة الإمام فاقرأ بقل هو الله أحد ونحوها ، وإذا لم تسمع قراءته ففي نفسك " . وروى أشْعَثُ عن الحكم وحماد : " أن عليّاً كان يأمر بالقراءة خلف الإمام " . وروى ليث عن عطاء عن ابن عباس : " لا تَدَعْ أن تقرأ بفاتحة الكتاب جَهَرَ الإمام أو لم يجهر " . فإذا كان هؤلاء الصحابة قد رُوي عنهم القراءة خلف الإمام ورُوي عنهم تركها فكيف تثبت به حجة ؟ قيل له : أما حديث عمر ومعاذ فمجهول السند لا تثبت بمثله حجة ، وحديث علي إنما هو عن الحكم وحماد ومخالفنا لا يقبل مثله لإرساله ، وحديث ابن عباس هذا رواه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ، وقد رَوَى عنه أبو حمزة النهي . ومع ذلك فلم يكن احتجاجنا من جهة قول الصحابة فحسب وإنما قلنا إن ما كان هذا سبيله من الفروض التي عمت الحاجة إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُخْلِيهم من توقيف لهم على إيجابه ، فلما وجدناهم قائلين بالنهي علمنا أنه لم يكن منه توقيف للكافة عليه ، فثبت أنها غير واجبة . ولا يصير قول من قال منهم بإيجابه قادحاً فيما ذكرنا ، من قِبَلِ أن أكثر ما فيه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف عليه للكافة ، فذهب منهم ذاهبون إلى إيجاب قراءتها بتأويل أو قياس ، ومثل ذلك طريقه توقيف الكافة ونقل الأمة . ويدلّ على نفي وجوبها اتفاقُ الجميع على أن مُدْرِكَ الإمام في الركوع يتابعه مع ترك القراءة ، فلو كانت فرضاً لما جاز تركها بحال ، كالطهارة وسائر أفعال الصلاة .
فإن قيل : إنما جاز ذلك للضرورة وهو خوف فوات الركعة . قيل له : خَوْفُ فَوَاتِ الركعة ليس بضرورة من وجوه ، أحدها : أن فعل الصلاة خَلف الإمام ليس بفرض ؛ لأنه لو صلاها منفرداً أجزأه ، وإنما هو فضيلة ، فإذا خوف فواتها ليس بضرورة في تركها . وأيضاً فإنه لو كان محدثاً لم يكن خوف فوات الجماعة مبيحاً لترك الطهارة ، وكذلك لو أدركه في السجود لم تكن له ضرورة في جواز سقوط الركوع ، فلما جاز تَرْكُ القراءة في هذه الحال دون سائر الفروض دل على أنها ليست بفرض . ويدل على أنها ليست بفرض اتفاق الجميع على أن مَنْ كان خلف الإمام في الصلاة التي يجهر فيها لا يقرأ السورة مع الفاتحة ، فلو كانت القراءة فرضاً لكان من سُنَنِها قراءة السورة مع فاتحة الكتاب ؛ لأن سائر الصلوات التي القراءة فيها مفروضة فإن من سننها قراءة السورة . ويدل عليه أيضاً اتفاق الجميع على أن المأموم لا يجهر بها في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة ، ولو كانت فرضاً لجهر بها كالإمام ؛ وفي ذلك دليل على أنها ليست بفرض إذ كانت صلاة جماعة من الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة ، وكان ينبغي أن لا يختلف حكم الإمام والمأموم في الجهر والإخفاء لو كانت فرضاً عليه كهي على الإمام .