الكلام في قسمة الغنائم
قال الله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } ، وقال في آية أخرى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً } ، فرُوي عن ابن عباس ، ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ } ؛ وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء من الناس ، لا حقَّ لأحد فيه إلا من جعله النبي صلى الله عليه وسلم له ، وأن ذلك كان يوم بدر ؛ وقد ذكرنا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هَذَا السَّيْفُ لَيْسَ لي ولا لَكَ " ، ثم لما نزل : { قُلِ الأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ } دعاه ، وقال : " إِنَّكَ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لي ولا لَكَ وقَدْ جَعَلَهُ الله لي وجَعَلْتُهُ لَكَ " ، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبدالله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجَّل ناسٌ من المسلمين فأصابوا من الغنائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تَحِلَّ الغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوس قَبْلَكُمْ ، كان النَّبِيُّ إذا غَنِمَ هو وأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا " ، فأنزل الله تعالى : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً } . وقال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى قوله : { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم . فأخبر في هذين الخبرين أن الغنائم إنما أُحِلَّت بعد وقعة بدر ، وهذا مرتب على قوله تعالى : { قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ } وأنها كانت موكولة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم .
فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في إعطائها من رأى ، ثم نزل قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } ؛ وقوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً } وأن فداء الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى : { قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ } ، وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديّاً ، ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة ، وفداء الأسرى محظوراً ، وكذلك يقول أبو حنيفة : إنه لا تجوز مفاداة أسرى المشركين . ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر إلا بجَعْلِ النبي ذلك لهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يخمس غنائم بدر ، ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } ، فجعل بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة ، ونسخ به ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأنفال إلا ما كان شرطه قبل إحراز الغنيمة ، نحو أن يقول : من أصاب شيئاً فهو له ، ومن قتل قتيلاً فله سلبه ؛ لأن ذلك لم ينتظمه قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } إذ لم يحصل ذلك غنيمة لغير آخذه أو قاتله .
وقد اختلف في النفل بعد إحراز الغنيمة .
ذكر الخلاف فيه
قال أصحابنا ، والثوري : " لا نفل بعد إحراز الغنيمة إنما النفل أن يقول : من قتل قتيلاً فله سَلَبُهُ ومن أصاب شيئاً فهو له " . وقال الأوزاعي : " في رسول الله أسوة حسنة ، كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث " . وقال مالك والشافعي : " يجوز أن ينفّل بعد إحراز الغنيمة على وجه الاجتهاد " . قال الشيخ : ولا خلاف في جواز النفل قبل إحراز الغنيمة ، نحو أن يقول : من أخذ شيئاً فهو له ، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبُه ، وقد رَوَى حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ في بدأته الربع ، وفي رجعته الثلث بعد الخمس ، فأما التنفيل في البدأة فقد ذكرنا اتفاق الفقهاء عليه ، وأما قوله : في الرجعة الثلث ، فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما : ما يصيب السرية في الرجعة بأن يقول لهم : ما أصبتم من شيء فلكم الثلث بعد الخمس ؛ ومعلوم أن ذلك ليس بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه لم يبين كيفيته ، وجائز أن يكون معناه ما ذكرناه من قوله للسرية في الرجعة ؛ وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله في البدأة ؛ لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنائم وإحرازها ويكون من حواليهم الكفار متأهّبين مستعدين للقتال لانتشار الخبر بوقوع الجيش إلى أرضهم . والوجه الآخر : أنه جائز أن يكون ذلك بعد إحراز الغنيمة ، وكان ذلك في الوقت الذي كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم فجعلها لمن شاء منهم ، وذلك منسوخ بما ذكرنا .
فإن قيل : ذكر في حديث حبيب بن مسلمة الثلث بعد الخمس ، فهذا يدل على أن ذلك كان بعد قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ } . قيل له : لا دلالة فيه على ما ذكرت ؛ لأنه لم يذكر أنه الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله تعالى : { فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } ، وجائز أن يكون ذلك على خمس من الغنيمة لا فرق بينه وبين الثلث والنصف . ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا لم يجز الاعتراضُ به على ظاهر قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب الأربعة الأخماس للغانمين اقتضاءه إيجاب الخمس لأهله المذكورين ، فمتى أُحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية ، فغير جائز أن يجعل شيء منها لغيره على غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن عبيد الله قال : حدثني نافع عن عبدالله بن عمر قال : " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ فبلغت سهامنا اثني عشر بعيراً ونَفَّلَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً " ، فبيّن في هذا الحديث سُهْمَانَ الجيش ، وأخبر أن النفل لم يكن من جملة الغنيمة وإنما كان بعد السهمان وذلك من الخمس .
ويدل على أن النفل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز إلا من الخُمْسِ ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الوليد بن عتبة قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا عبدالله بن العلاء أنه سمع أبا سلام بن الأسود يقول ، قال : سمعت عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المَغْنَم ، فلما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : " ولا يَحِلُّ لي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلاّ الخُمُسُ والخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ " ، فأخبر عليه السلام أنه لم يكن جائز التصرف إلا في الخمس من الغنائم ، وأن الأربعة الأخماس للغانمين ، وفي ذلك دليل على أن ما أُحرز من الغنيمة فهو لأهلها لا يجوز التنفيل منه . وفي هذا الحديث دليل على أن ما لا قيمة له ولا يتمانعه الناس من نحو النواة والتبنة والخِرَقِ التي يُرْمَى بها يجوز للإنسان أن يأخذه وينفله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه وبرة من جنب بعير من المغنم وقال : " لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا " يعني في أن يأخذه لنفسه وينتفع به أو يجعله لغيره دون جماعتهم ، إذ لم تكن لتلك الوبرة قيمة .
فإن قيل : فقد قال : " لا يحل لي مثل هذا " . قيل له : إنما أراد مثل هذا فيما يتمانعه الناس لا ذاك بعينه ؛ لأنه قد أخذه . ويدل على ما ذكرنا ما رواه ابن المبارك قال : حدثنا خالد الحذَّاءُ عن عبدالله بن شقيق ، عن رجل من بَلْقَيْنِ ذكر قصة قال : قلنا : يا رسول الله ما تقول في هذا المال ؟ قال : " خُمُسُهُ لله وأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ للجَيْشِ " قال : قلت : هل أحق أحد به من أحد ؟ قال : " لو انْتَزَعْتَ سَهْمَكَ مِنْ جَنْبِكَ لَم تَكُنْ بأَحَقَّ بهِ مِنْ أَخِيكَ المُسْلِمِ " . وروى أبو عاصم النبيل ، عن وهب أبي خالد الحمصي قال : حدثتني أم حبيبة عن أبيها العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة فقال : " ما لي فِيكُمْ هَذِهِ ما لي فيه إلاّ الخُمُس ، فأدُّوا الخَيْطَ والمَخِيطَ فإنّهُ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ على صَاحِبِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ذكر غنائم هوازن وقال : ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال : " يا أيُّها النَّاسُ إنّه لَيْسَ لي مِنْ هَذَا الفَيْءِ شَيْءٌ ، ولا هذا " ورفع أصبعيه : " إِلاّ الخُمُسُ والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ، فَأَدُّوا الخَيْطَ والمَخِيط " ، فقام رجل في يده كُبَّةٌ من شَعَرٍ فقال : أخذت هذه لأصلح بها بُرْدَةً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَمَّا ما كانَ لي ولبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فهو لَكَ " فقال : إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ، ونبذها . فهذه الأخبار موافقة لظاهر الكتاب ، فهو أوْلى مما يخالفه من حديث حبيب بن مسلمة مع احتمال حديثه للتأويل الذي وصفناه ، وجمعنا يمنع أن يكون في الأربعة الأخماس حقّ لغير الغانمين ، وبخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه لا حقّ له فيها .
وروى محمد بن سيرين : أن أنس بن مالك كان مع عبيدالله بن أبي بكرة في غزاة فأصابوا سبياً ، فأراد عبيدالله أن يعطي أَنَساً من السَّبْي قبل أن يُقْسَم ، فقال أنس : لا ، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس ! فقال عبيدالله : لا ، إلا من جميع الغنائم ! فأبى أنس أن يقبل ، وأبى عبيدالله أن يعطيه من الخمس . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله : حدثنا حجاج : حدثنا حماد عن محمد بن عمرو ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : " لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم " . قال الشيخ أيده الله : يجوز أن يريد به من جملة الغنيمة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت له الأنفال ثم نسخ بآية القسمة . وهذا مما يحتج به لصحة مذهبنا لأن ظاهره يقتضي أن لا يكون لأحد نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال ، إلا أنه قد قامت الدلالة في أن الإمام إذا قال من قتل قتيلاً فله سَلَبُه ، أن يصير ذلك له بالاتفاق ، فخصصناه وبقي الباقي على مقتضاه في أنه إذا لم يقل ذلك الإمام فلا شيء له ، وقد رُوي عن سعيد بن المسيب قال : كان الناس يُعْطَوْنَ النفل من الخمس .
فإن قيل : قد أَعْطَى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حُنَيْنٍ صناديد العرب عطايا نحو الأقرع بن حابس ، وعُيَيْنة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، وأبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية . ومعلوم أنه لم يعطهم ذلك من سهمه من الغنيمة ، وسهمه من الخمس إذ لم يكن يتسع لهذه العطايا ، لأنه أعطى كل واحد من هؤلاء وغيرهم مائة من الإبل ، ولم يكن ليعطيهم من بقية سهام الخمس سوى سهمه لأنها للفقراء ولم يكونوا هؤلاء فقراء ، فثبت أنه أعطاهم من جملة الغنيمة ؛ ولما لم يستأذنهم فيه ، دلّ على أنه أعطاهم على وجه النفل وأنه قد كان له أن ينفل . قيل له : إن هؤلاء القوم كانوا من المؤلَّفة قلوبهم ، وقد جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقات ، وسبيلُ الخمس سبيل الصدقة لأنه مصروف إلى الفقراء كالصدقات المصروفة إليهم ، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من جملة الخمس كما يعطيهم من الصدقات .
مطلب : في سلب القتيل
وقد اختلف في سَلَب القتيل ، فقال أصحابنا ، ومالك ، والثوري : " السَّلَبُ من غنيمة الجيش إلا أن يكون الأمير قال من قتل قتيلاً فلَه سلبه " . وقال الأوزاعي ، والليث ، والشافعي : " السلب للقاتل وإن لم يقل الأمير " . قال الشيخ أيده الله : قوله عز وجل : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } يقتضي وجوب الغنيمة لجماعة الغانمين ، فغير جائز لأحد منهم الاختصاص بشيء منها دون غيره . فإن قيل : ينبغي أن يدل على أن السلب غنيمة ، قيل له : { غَنِمْتُمْ } هي التي حازوها باجتماعهم وتوازُرِهم على القتال وأخذ الغنيمة ، فلما كان قَتْلُه لهذا القتيل وأَخْذُه سلبه بتضافر الجماعة وجب أن يكون غنيمة ؛ ويدل عليه أنه لو أخذ سَلَبَهُ من غير قتل لكان غنيمة إذ لم يصل إلى أخْذِهِ إلا بقوتهم ، وكذلك من لم يقاتل وكان قائماً في الصفّ رِدْءاً لهم مستحق الغنيمة ويصير غانماً لأن بظهره ومعاضدته حصلت وأُخذت ؛ وإذا كان كذلك وجب أن يكون السلب غنيمة فيكون كسائر الغنائم . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً } والسلب مما غنمه الجماعة فهو لهم .
ويدل على ذلك من جهة السنّة ما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري : حدثنا محمد بن يحيى : حدثنا محمد بن المبارك وهشام بن عمار قالا : حدثنا عمرو بن واقد ، عن موسى بن يسار ، عن مكحول ، عن قتادة بن أبي أمية قال : نزلنا دابِقَ وعلينا أبو عبيدة بن الجراح ، فبلغ حبيب بن مسلم أن فند صاحب قبرس خرج يريد طريق أَذَرْبَيْجَانَ معه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج ، فخرج في جبل حتى قتله في الدرب وجاء بما كان معه إلى أبي عبيدة ، فأراد أن يخمّسه ، فقال حبيب : يا أبا عبيدة لا تحرمني رزقاً رَزَقَنِيهِ الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السَّلَبَ للقاتل ، فقال معاذ بن جبل : مهلاً يا حبيب ، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنّما للمَرْءِ ما طَابَتْ به نَفْسُ إِمَامِهِ " . فقوله عليه السلام : " إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه " يقتضي حظر ما لم تطب نفس إمامه ، فمن لم تطب نفس إمامه لم يحلّ له السلب ، لا سيما وقد أخبر معاذ أن ذلك في شأن السلب .
فإن قيل : قد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ منهم أبو قتادة وطلحة وسمرة بن جندب وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ " . وروى سلمة بن الأكوع ، وابن عباس ، وعوف بن مالك ، وخالد بن الوليد : " أن النبي عليه السلام جعل السلب للقاتل " ، وهذا يدل على معنيين ، أحدهما : أنه يقتضي أن يستحق القاتل السلب ، والثاني : أنه فسر أن معنى قوله في حديث معاذ : " إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه " أن نفسه قد طابت للقاتل بذلك وهو إمام الأئمة . قيل له : قوله عليه السلام : " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " المفهوم منه أميره الذي يلزمه طاعته ، وكذلك عَقِلَ معاذٌ وهو راوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو أراد بذلك نفسه لقال إنما للمرء ما طابت به نفسي ، فهذا الذي ذكره هذا السائل تأويل ساقطٌ لا معنى له . وأما الأخبار المرويّةُ في أن السلب للقاتل فإنما ذلك كلام خرج على الحال التي حضّ فيها للقتال ، وكان يقول ذلك تحريضاً لهم وتَضْرِيَةً على العدو ، كما روي أنه قال : " مَنْ أَصَابَ شَيْئاً فَهُوَ له " ، وكما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري : حدثنا محمد بن يحيى الدهاني : حدثنا موسى بن إسماعيل : حدثنا غالب بن حجرة قال : حدثتني أم عبدالله وهي ابنة الملقام بن التلب عن أبيها ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَتَى بمُوَلٍّ فَلَهُ سَلَبُهُ " ؛ ومعلوم أن ذلك حكم مقصور على الحال في تلك الحرب خاصة إذْ لا خلاف أنه لا يستحق السلب بأخذه مُوَلِّياً ، وهو كقوله يوم فتح مكة : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ومَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فهو آمِنٌ ومَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فهو آمِنٌ ومَنْ أَلْقَى سِلاحَهُ فهو آمِنٌ " .
ويدل على أن السلب غير مستحق للقاتل إلا أن يكون قد قال الأمير :من قتل قتيلاً فله سلبه ، ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم : حدثني صفوان بن عمرو عن عبدالرحمن بن جبير بن نُفَيْر ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مُؤْتة ورافقني مَدَدِيٌّ من أهل اليمن ليس معه غير سيفه ، فنحر رجل من المسلمين جَزُوراً ، فسأله المدديُّ طائفةً من جلده ، فأعطاه إياه ، فاتخذه كهيئة الدرق ، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الروميّ يُغْري بالمسلمين ؛وقعد له المدديُّ خلف صخرة ، فمر به الرومي فعرقب فرسه وخرَّ ، وعلاه فقتله ، وحاز فرسه وسلاحه ؛ فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب ؛ قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ فقال : بلى ولكن استكثرته ، فقلت : لتردّنّه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأبى أن يرد عليه ؛ قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المدديّ وما فعل خالد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خَالِدُ مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ ؟ " قال : يا رسول الله استكثرته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خَالِدُ رُدَّ عليه ما أَخَذْتَ مِنْهُ ! " قال : عوف : فقلت : دونك يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما ذَاكَ ؟ " فأخبرته ، قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خَالِدُ لا تَرُدَّ عَلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو أُمَرَائي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ " . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد قال : سألت ثوراً عن هذا الحديث ، فحدثني عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه . فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا خالد لا تردَّ عليه " دل ذلك على أن السلب غير مستحق للقاتل ؛ لأنه لو استحقه لما جاز أن يمنعه ، ودل ذلك على أن قوله بديّاً ادْفَعْهُ إليه لم يكن على جهة الإيجاب ، وإنما كان على وجه النفل ، وجائز أن يكون ذلك من الخمس .
ويدل عليه ما روى يوسف الماجشون قال : حدثني صالح بن إبراهيم عن أبيه عن عبدالرحمن بن عوف أن معاذ بن عفراء ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح قتلا أبا جهل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كِلاكُمَا قَتَلَهُ " وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو . فلما قضى به لأحدهما مع إخباره أنهما قتلاه دلَّ على أنهما لم يستحقاه بالقتل ، ألا ترى أنه لو قال : من قتل قتيلاً فله سلبه ، ثم قتله رجلان استحقّا السلب نصفين ؟ فلو كان القاتل مستحقّاً للسلب لوجب أن يكون لو وُجِدَ قتيل لا يعرف قاتله أن لا يكون سلبه من جملة الغنيمة بل يكون لُقَطَةً لأن له مستحقّاً بعينه ، فلما اتفق الجميع على أن سلب من لم يُعرف قاتله في المعركة من جملة الغنيمة دلّ على أن القاتل لا يستحقه .
وقد قال الشافعي : " إن القاتل لا يستحق السلب في الإدبار وإنما يستحقه في الإقبال " ، فالأثر الوارد في السلب لم يفرق بين حال الإقبال والإدبار . فإن احتج بالخبر فقد خالفه ، وإن احتج بالنظر فالنظر يوجب أن يكون غنيمة للجميع لاتفاقهم على أنه إذا قتله في حال الإدبار لم يستحقه وكان غنيمة ، والمعنى الجامع بينهما أنه قتله بمعاونة الجميع ولم يتقدم من الأمير قول في استحقاقه . ويدل على أن القاتل إنما يستحقه إذا تقدم من الأمير قَوْلٌ قبل إحراز الغنيمة أنه لو قال : من قتل قتيلاً فله سلبه ، ثم قتله مقبلاً أو مدبراً استحق سلبه ، ولم يختلف حال الإقبال والإدبار ؛ فلو كان السلب مستحقّاً بنفس القتل لما اختلف حكمه في حال الإقبال والإدبار . وقد رُوي عن عمر في قتيل البراء بن مالك أنا كنّا لا نخمس السلب وأن سلب البراء قد بلغ مالاً ولا أرانا إلا خامِسيه .
مطلب : إذا قال الأمير من أصاب شيئاً فهو له
واخْتُلِف في الأمير إذا قال : من أصاب شيئاً فهو له ، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي : " هو كما قال ولا خمس فيه " ، وكره مالك أن يقول من أصاب شيئاً فهو له لأنه قتال بجُعْلٍ . وقال الشافعي : " يخمس ما أصابه إلاّ سلب المقتول " . قال أبو بكر : لما اتفقوا على جواز أن يقول : من أصاب شيئاً فهو له ، وأنه يستحق ، وجب أن لا خمس فيه وأن يجوز قطع حقوق أهل الخمس عنه ، كما جاز قطع حقوق سائر الغانمين عنه . وأيضاً فإن قوله : من أصاب شيئاً فهو له ، بمنزلة من قتل قتيلاً فله سلبه ، فما لم يجب في السلب الخمس إذا قال الأمير ذلك كذلك سائر الغنيمة . وأيضاً فإن الله تعالى إنما أوجب الخمس فيما صار غنيمة لهم بقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } وهذا لم يَصِرْ غنيمةً لهم لأن قول الأمير في ذلك جائز على الجيش ، فلما لم يصر غنيمة لهم وجب أن لا خمس فيه .
مطلب : فيمن دخل دار الحرب مغيراً بغير إذن الإمام
واختلف في الرجل يدخل دار الحرب وحده مُغيراً بغير إذن الإمام ، فقال أصحابنا : " ما غنمه فهو له خاصة ولا خمس فيه حتى تكون لهم منعة " . ولم يحد محمد في المنعة شيئاً . وقال أبو يوسف : " إذا كانوا تسعة ففيه الخمس " . وقال الثوري والشافعي : " يخمس ما أخذه والباقي له " . وقال الأوزاعي : " إن شاء الإمام عاقبه وحرمه ، وإن شاء خمس ما أصاب ، والباقي له " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } يقتضي أن يكون الغانمون جماعة ؛ لأن حصول الغنيمة منهم شرط في الاستحقاق ، وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] و { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] في لزوم قتل الواحد على حياله وإن لم يكن معه جماعة إذا كان مشركاً ؛ لأن ذلك أمْرٌ بقتل الجماعة والأمْرُ بقتل الجماعة لا يوجب اعتبار الجميع إذ ليس فيه شرط ، وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } فيه معنى الشرط ، وهو حصول الغنيمة لهم وبقتالهم ، فهو كقول القائل : إن كلمت هؤلاء الجماعة فعبدي حرّ ، أن شرط الحنث وجود الكلام للجماعة ولا يحنث بكلام بعضها . وأيضاً لما اتفق الجميع على أن الجيش إذا غنموا لم يشاركهم سائر المسلمين في الأربعة الأخماس لأنهم لم يشهدوا القتال ولم تكن منهم حيازة الغنيمة ، وجب أن يكون هذا المُغِيرُ وحده استحق ما غنمه ، وأما الخمس فإنما يستحق من الغنيمة التي حصلت بظهر المسلمين ونصرتهم وهو أن يكونوا فئة للغانمين ، ومن دخل دار الحرب وحده مُغِيراً فقد تبرّأ من نصرة الإمام ، لأنه عاصٍ له داخلٌ بغير أمره فوجب أن لا يستحق منه الخمس ؛ ولذلك قال أصحابنا في الركاز الموجود في دار الإسلام : لما كان الموضع مظهوراً عليه بالإسلام وجب فيه الخمس ولو وجده في دار الحرب لم يجب فيه الخمس . وإذا دخل الرجل وحده بإذن الإمام خمس ما غنم ؛ لأنه لما أذن له في الدخول فقد تضمن نصرته وحياطته ، والإمام قائم مقام جماعة المسلمين في ذلك فاستحق لهم الخمس . وأما إذا كان المغيرون بغير إذن الإمام جماعةً لهم مَنَعةٌ فإنه يجب فيه الخمس بقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ } فهم في هذه الحال بمنزلة السرية والجيش ، لحصول المنعة لهم ولتوجه الخطاب إليهم بإخراج الخمس من غنائمهم .
مطلب : في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة
واختلف في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة ، فقال أصحابنا : " إذا غنموا في دار الحرب ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجهم إلى دار الإسلام فهم شركاء فيها " . وقال مالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي : " لا يشاركونهم " . قال أبو بكر : الأصل في ذلك عند أصحابنا أن الغنيمة إنما يثبت فيها الحق بالإحراز في دار الإسلام ولا يملك إلا بالقسمة ، وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقّاً ؛ والدليل عليه أن الموضع الذي حصل فيه الجيش من دار الحرب لا يصير مغنوماً إذا لم يفتتحوها ، ألا ترى أنهم لو خرجوا ثم دخل جيش آخر ففتحوها لم يَصِرِ الموضِعُ الذي صار فيه الأوّلون ملكاً لهم وكان حكمه حكم غيره من بقاع أرض الحرب ؟ والمعنى فيه أنهم لم يحرزوه في دار الإسلام ، فكذلك سائر ما يحصل في أيديهم قبل خروجهم إلى دار الإسلام لم يثبت لهم فيه حقٌّ إلا بالحيازة في دارنا ، فإذا لحقهم جيش آخر قبل الإحراز في دار الإسلام كان حكم ما أخذوه حكم ما في أيدي أهل الحرب ، فيشترك الجميع فيه . وأيضاً قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } يقتضي أن يكون غنيمةً لجميعهم ، إذ بهم صار محرزاً في دار الإسلام ، ألا ترى أنهم ما داموا في دار الحرب فإنهم يحتاجون إلى معونة هؤلاء في إحرازها كما لو لحقوهم قبل أخذها شاركوهم ؟ ولو كان حصولها في أيديهم يُثْبِتُ لهم فيها حقّاً قبل إحرازها في دار الإسلام لوجب أن يصير الموضع الذي وَطِئَهُ الجيش في دار الإسلام ، كما لو افتتحوها لصارت داراً للإسلام ، وفي اتفاق الجميع على أن وَطْءَ الجيش لموضع في دار الحرب لا يجعله من دار الإسلام دليلٌ على أن الحقَّ لا يثبت فيه إلا بالحيازة .
واحتج من لم يقسم للمَددِ بما رَوَى الزهري عن عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية قِبَلِ نَجْدٍ ، فقدم أبان وأصحابه بخيبر بعدما فتحت وإن حزم خيلهم الليف ، قال أبان : اقسم لنا يا رسول الله ! قال أبو هريرة : فقلت : لا تقسم لهم شيئاً يا نبي الله ! قال أبان : أنت بهذا يا وتر نجد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجْلِسْ يا أَبَانُ " فلم يقسم لهم . وهذا لا حجة فيه ؛ لأن خيبر صارت دار الإسلام بظهور النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وهذا لا خلاف فيه .
وقد قيل فيه وجه آخر ، وهو ما رَوَى حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة قال : " ما شهدت لرسول الله مغنماً إلا قسم لي إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة " . فأخبر في هذا الحديث أن خيبر كانت لأهل الحديبية خاصة ، شهدوها ، أو لم يشهدوها دون من سواهم ؛ لأن الله تعالى كان وعدهم إياها بقوله : { وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها } [ الفتح : 21 ] بعد قوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه } [ الفتح : 20 ] . وقد رَوَى أبو بُرْدَةَ عن أبي موسى قال : " قَدِمْنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر بثلاث ، فقسم لنا ، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا " . فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لأبي موسى وأصحابه من غنائم خيبر ، ولم يشهدوا الوقعة ، ولم يقسم فيها لأحد لم يشهد الوقعة . وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل الحديبية ، ويحتمل أن يكون بطيبة أنفس أهل الغنيمة ، كما روى خُثَيْم بن عراك عن أبيه عن نفر من قومه أنَّ أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه ، قال : فقدمنا وقد خرج رسول الله ، فخرجنا من المدينة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افتتح خيبر ، فكلّم الناس فأشركونا في سهامهم . فليس في شيء من هذه الأخبار دلالة على أن المَدَدَ إذا ألحق بالجيش وهم في دار الحرب أنهم لا يشركونهم في الغنيمة . وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غَزَوْا نَهَاوَنْدَ فأمدّهم أهلُ الكوفة وظهروا ، فأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة ، وكان عمار على أهل الكوفة ، فقال رجل من بني عُطَارِدَ : أيّها الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا ! فقال : جَيْرِ إذْ بي سبيت ؛ فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر في ذلك : إن الغنيمة لمن شهد الوقعة . وهذا أيضاً لا دلالة فيه على خلاف قولنا ؛ لأن المسلمين ظهروا على نهاوند وصارت دار الإسلام إذْ لم يبق للكفار هناك فئة ، فإنما قال : " إن الغنيمة لمن شهد الوقعة منهم " لأنهم لحقوهم بعدما صارت دار الإسلام ، ومع ذلك فقد رأى عمار ومن معه أن يشركوهم ، ورأى عمر أن لا يشركوهم لأنهم لحقوه بعد حيازة الغنيمة في دار الإسلام لأن الأرض صارت من دار الإسلام .
باب سُهْمَانِ الخيل
قال الله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ } قال أبو بكر : ظاهره يقتضي المساواة بين الفارس والراجل ، وهو خطاب لجميع الغانمين وقد شملهم هذا الاسم ، ألا ترى أن قوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } [ النساء : 11 ] قد عقل من ظاهره استحقاقهن للثلثين على المساواة ؟ وكذلك من قال : هذا العبد لهؤلاء أنه لهم بالمساواة ما لم يذكر التفضيل ، كذلك مقتضى قوله تعالى : { غَنِمْتُمْ } يقتضي أن يكونوا متساوين ؛ لأن قوله : { غَنِمْتُمْ } عبارة عن ملكهم له .
وقد اختلف في سهم الفارس .
ذكر الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة : " للفارس سهمان وللراجل سهم " . وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي : " للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم " . ورُوي مثل قول أبي حنيفة عن المنذر بن أبي حمصة عامل عمر أنه جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً فرَضِيَه عمر . ومثله عن الحسن البصري . ورَوَى شريكٌ عن أبي إسحاق قال : قدم قُثَمُ بن العباس على سعيد بن عثمان بخراسان وقد غنموا ، فقال : أجعل جائزتك أن أضرب لك بألف سهم ؟ فقال : اضرب لي بسهم ولفرسي بسهم .
قال أبو بكر : قد بينا أن ظاهر الآية يقتضي المساواة بين الفارس والرجل ، فلما اتفق الجميع على تفضيل الفارس بسهم فضلناه وخصصنا به للظاهر وبقي حكم اللفظ فيما عداه . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال : حدثنا محمد بن الصباح الجرجرائي قال : حدثنا عبدالله بن رجاء عن سفيان الثوري عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً " ؛ قال عبدالباقي : لم يجىء به عن الثوري غير محمد بن الصباح .
قال أبو بكر : وقد حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا أبو أسامة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للفَارِسِ ثلاثَةُ أَسْهُمٍ :سَهْمٌ لَهُ ، وسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ " . واختلف حديث عبيدالله بن عمر في ذلك ، وجائز أن يكونا صحيحين بأن يكون أعطاه بديّاً سهمين وهو المستحق ، ثم أعطاه في غنيمة أخرى ثلاثة أسهم ؛وكان السهم الزائد على وجه النفل ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع المستحقَّ ، وجائز أن يتبرع بما ليس بمستحق على وجه النفل كما ذكر ابن عمر في حديث قد قدمنا ذكر سنده أنه كان في سرية فقال : فبلغت سُهْمَانُنا اثني عشر بعيراً ونَفَّلَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحسن بن الكُمَيْت الموصلي قال : حدثنا صبح بن دينار قال : حدثنا عفيف بن سالم عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم بدر للفارس سهمين وللراجل سهماً " ، وهذا إن ثبت فلا حجة فيه لأبي حنيفة ؛ لأن قسمة يوم بدر لم تكن مستحقَّةً للجيش ، لأن الله تعالى جعل الأنفال للرسول صلى الله عليه وسلم وخَيَّرَه في إعطائه من رأى ، ولو لم يعطهم شيئاً لكان جائزاً ، فلم تكن قسمة الغنيمة مستحقة يومئذ وإنما وجبت بعد ذلك بقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ } ونسخ بهذا الأنفال التي جعلها للرسول في جملة الغنيمة . وقد روى مجمع بن جارية : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فجعل للفارس سهمين وللراجل سهماً " ، وروى ابن الفضيل عن الحجاج عن أبي صالح عن ابن عباس قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً " . وهذا خلاف رواية مجمع بن جارية ، وقد يمكن الجمع بينهما بأن يكون قسم لبعض الفرسان سهمين وهو المستحقّ وقسم لبعضهم ثلاثة أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل ، كما روى سلمة بن الأكوع : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في غزوة ذي قرد سهمين :سهم الفارس والراجل ؛وكان راجلاً يومئذ " ، وكما رُوي أنه أعطى الزبير يومئذ أربعة أسهم . وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير . أن الزبير كان يضرب له في المغنم بأربعة أسهم ، وهذه الزيادة كانت على وجه النفل تحريضاً لهم على إيجاف الخيل ، كما كان ينفل سلب القتيل ويقول : " مَنْ أَصَابَ شَيْئاً فَهُوَ لَهُ " تحريضاً على القتال .
فإن قيل : لما اختلفت الأخبار كان خبر الزائد أوْلى . قيل له : هذا إذا ثبتت الزيادة كانت على وجه الاستحقاق ، فأما إذا احتمل أن تكون على وجه النفل فلم تثبت هذه الزيادة مستحقة . وأيضاً فإن في خبرنا إثبات زيادة لسهم الراجل لأنه كلما نقص نصيب الفارس زاد نصيب الراجل ، ويدل على ما ذكرنا من طريق النظر أن الفرس لما كان آلة كان القياس أن لا يُسهم له كسائر الآلات ، فتركنا القياس في السهم الواحد والباقي محمول على القياس ؛ وعلى هذا لو حضر الفرس دون الرجل لم يستحق شيئاً ولو حضر الرجل دون الفرس استحقّ ، فلما لم يجاوز بالرجل سهماً واحداً كان الفرس به أوْلى . وأيضاً الرجل آكد أمراً في استحقاق السهم من الفرس ، بدلالة أن الرجال ، وإن كثروا ، استحقوا سهامهم ، ولو حضرت جماعة أفراس لرجل واحد لم يستحق إلا لفرس واحد ، فلما كان الرجل آكد أمراً من الفرس ولم يستحق أكثر من سهم ، فالفرس أحرى بذلك .
واختلف في البَرَاذِين ، فقال أصحابنا ومالك والثوري والشافعي : " البرذون والفرس سواء " . وقال الأوزاعي : " كانت أئمة المسلمين فيما سلف لا يُسْهِمُونَ للبراذين حتى هاجت الفتنة من بعد قتل الوليد بن يزيد " . وقال الليث : " للهجين والبرذون سهم واحد ولا يُلحقان بالعِراب " . قال أبو بكر : قال الله تعالى : { وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوكُمْ } . وقال : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } [ الحشر : 6 ] ، وقال : { والخيل والبغال والحمير } [ النحل : 8 ] ، فعقل باسم الخيل في هذه الآيات البراذين كما عقل منها العِرَابُ ، فلما شملها اسم الخيل وجب أن يستويا في السهمان . ويدل عليه أن راكب البِرْذَوْنِ يسمَّى فارساً كما يسمَّى به راكب الفرس العربي ، فلما أُجري عليهما اسم الفارس وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " للفَارِسِ سَهْمَانِ وللرَّاجِلِ سَهْمٌ " عمَّ ذلك فارس البرذون كما عم فارس العراب . وأيضاً إن كان من الخيل فواجب أن لا يختلف سهمه وسهم العربي ، وإن لم يكن من الخيل فواجب أن لا يستحق شيئاً ، فلما وَافَقَنا الليثُ ومن قال بقوله أنه يُسهم له دلّ على أنه من الخيل وأنه لا فرق بينه وبين العربي . وأيضاً لا يختلف الفقهاء في أنه بمنزلة الفرس العربي في جواز أكله وحظره على اختلافهم فيه ، فدل على أنهما جنس واحد ، فصار فرق ما بينهما كفرق ما بين الذكر والأنثى ، والهزيل والسمين ، والجواد وما دونه ، وأن اختلافهما في هذه الوجوه لم يوجب اختلاف سهامهما . وأيضاً فإن الفرس العربي وإن كان أجْرى من البرذون فإن البرذون أقوى منه على حمل السلاح . وأيضاً فإن الرجل العربي والعجمي لا يختلفان في حكم السهام كذلك الخيل العربي والعجمي . وقال عبدالله بن دينار : سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال سعيد : " وهل في الخيل من صدقة ؟ " وعن الحسن أنه قال : " البراذين بمنزلة الخيل " . وقال مكحول : " أول من قَسَم للبراذين خالد بن الوليد يوم دمشق ، قسم للبراذين نصف سهمان الخيل لما رأى من جَرْيِها وقوتها ، فكان يعطى البراذين سهماً سهماً " ، وهذا حديث مقطوع وقد أخبر فيه أنه فعله من طرق الرأي والاجتهاد لما رأى من قوتها ، فإذاً ليس بتوقيف . وقد روى إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال : " أغارت الخيل بالشام وعلى الناس رجل من همدان يقال له المنذر بن أبي حمصة الوادعي ، فأدركت الخيل العراب من يومها وأدركت الكوادن من الغد ، فقال : لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك ، فكتب إلى عمر فيه ، فكتب عمر : هَبِلَتِ الوادعيَّ أمُّه ! لقد اذّكرت به ، أمضوها على ما قال ! " فاحتج من لم يسهم للبراذين بذلك . ولا دلالة في هذا الحديث على أن ذلك كان رأي عمر ، وإنماأجازه لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وقد حكم به أمير الجيش فأنفذه .
واخْتُلِفَ فيمن يغزو بأفراس ، فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي : " لا يُسْهَمُ إلا لفرس واحد " . وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعي والليث : " يسهم لفرسين " . والذي يدل على صحة القول الأول أنه معلوم أن الجيش قد كانوا يَغْزُون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ظهر الإسلام بفتح خيبر ومكة وحُنَيْن وغيرها من المغازي ، ولم يكن يخلو الجماعة منهم من أن يكون معه فَرَسَان أو أكثر ، ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لأكثر من فرس واحد . وأيضاً فإن الفرس آلةٌ وكان القياس أن لا يضرب له بسهم كسائر الآلات ، فلما ثبت بالسنّة والاتفاق سهم الفرس الواحد أثبتناه ولم نثبت الزيادة إلا بتوقيف إذْ كان القياس يمنعه .
باب قسمة الخمس
قال الله تعالى : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ وَللرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ } . واختلف السلف في كيفية قسمة الخمس في الأصل ، فروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : " كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس ؛ فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخُمس واحد يقسم على أربعة ، فربع لله وللرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله ولرسوله فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئاً ، والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين " . وروى قتادة عن عكرمة مثله . وقال قتادة في قوله تعالى : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ } قال : " يقسم الخمس على خمسة أسهم : لله وللرسول خمس ، ولقرابة النبي صلى الله عليه وسلم خمس ، ولليتامى خمس ، وللمساكين خمس ، ولابن السبيل خمس " . وقال عطاء والشعبي : " خمس الله وخمس الرسول واحد " ، قال الشعبي : هو مفتاح الكلام . وروى سفيان عن قيس بن مسلم قال : سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية عن قوله عز وجل : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ } قال : " هذا مفتاح كلام ، ليس لله نصيب ، لله الدنيا والآخرة " . وقال يحيى بن الجزار : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ } قال : " لله كل شيء وإنما النبي صلى الله عليه وسلم خَمَّسَ الخمس " . وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة فيضرب بيده فما وقع فيها من شيء جعله للكعبة وهو سهم بيت الله ؛ ثم يقسم ما بقي على خمسة ، فيكون للنبي صلى الله عليه وسلم سهم ، ولذوي القربى ، سهم ، ولليتامى سهم وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، والذي جعله للكعبة هو السهم الذي لله تعالى " . وروى أبو يوسف عن أشعث بن سوار عن ابن الزبير عن جابر قال : " كان يحمل الخمس في سبيل الله تعالى ويُعطي منه نائبة القوم ، فلما كثر المال جعله في غير ذلك " . وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : " أن الخمس الذي كان يُقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم : لله وللرسول سهم ، ولذوي القربى سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم : لليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل " .
قال أبو بكر : فاختلف السلفُ في قسمة الخمس على هذه الوجوه ، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة : إن القسمة كانت على أربعة :سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى كان واحداً ، وإنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من الخمس شيئاً . وقال آخرون : قوله { لله } افتتاحُ كلام وهو مقسوم على خمسة ، وهو قول عطاء والشعبي وقتادة . وقال أبو العالية : كان مقسوماً على ستة أسهم لله سهم يجعل للكعبة ولكل واحد من المسمّين في الآية سهم . وأخبر ابن عباس في حديث الكلبي أن الخلفاء الأربعة قسموه على ثلاثة . وقال جابر بن عبدالله : كان يحمل من الخمس في سبيل الله ويُعْطي منه نائبة القوم ثم جُعل في غير ذلك . وقال محمد بن مسلمة وهو من المتأخرين من أهل المدينة : جعل الله الرأي في الخُمْسِ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما كانت الأنفال له قبل نزول آية قسمة الغنيمة ، فنسخت الأنفال في الأربعة الأخماس وتُرك الخمس على ما كان عليه موكولاً إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما قال : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } [ الحشر : 7 ] ثم قال : { وما آتاكم الرسول فخذوه } [ الحشر : 7 ] ، فذكر هذه الوجوه ثم قال : { وما آتاكم الرسول فخذوه } [ الحشر : 7 ] فبيّن في آخره أنه موكول إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الخمس قال فيه :إنه لله وللرسول يعني قسمته موكولة إليه ، ثم بيّن الوجوه التي يقسم عليها على ما يرى ويختار . ويدلّ على ذلك حديث عبدالواحد بن زياد عن الحجاج بن أرطاة قال : حدثنا أبو الزبير عن جابر أنه سئل : كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع بالخمس ؟ قال : " كان يحمل منه في سبيل الله الرجل ثم الرجل ثم الرجل " . والمعنى في ذلك أنه كان يعطي منه المستحقين ولم يكن يقسمه أخماساً . وأما قول من قال : " إن القسمة كانت في الأصل على ستة وإن سهم الله كان مصروفاً إلى الكعبة " فلا معنى له ؛ لأنه لو كان ذلك ثابتاً لورد النقل به متواتراً ولكانت الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم أوْلى الناس باستعمال ذلك ، فلما لم يثبت ذلك عنهم عُلم أنه غير ثابت . وأيضاً فإن سهم الكعبة ليس بأوْلى بأن يكون منسوباً إلى الله تعالى من سائر السهام المذكورة في الآية إذْ كلها مصروفٌ في وجوه القُرَبِ إلى الله عز وجل ، فدلّ ذلك على أن قوله : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ } غير مخصوص بسهم الكعبة ، فلما بطلَ ذلك لم يَخْلُ المراد بذلك من أحد وجهين : إما أن يكون مفتاحاً للكلام على ما حكيناه عن جماعة من السلف وعلى وجه تعليمنا التبرُّك بذكر الله وافتتاح الأمور باسمه ، أو أن يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القُرَبِ إلى الله تعالى ؛ ثم بيَّن تلك الوجوه فقال : { وللرَّسُولِ ولذِي القُرْبَى } الآية ، فأجمل بديّاً حُكْمُ الخمس ثم فسّر الوجوه التي أجملها .
فإن قيل : لو أراد ما قلتَ لقال : فأن لله خمسه للرسول ولذي القربى ، ولم يكن يدخل الواو بين اسم الله تعالى واسم رسول الله . قيل له : لا يجب ذلك ، من قِبَلِ أنه جائز في اللغة إدخال الواو والمراد إلغاؤها كما قال تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } [ الأنبياء : 48 ] والواو ملغاة والفرقان ضياء ، وقال تعالى : { فلما أسلما وتلّه للجبين } [ الصافات : 103 ] معناه : لما أسلما تَلَّه للجبين ؛ لأن قوله : { فلما أسلما } [ الصافات : 103 ] يقتضي جواباً وجوابُه تلَّه للجبين ؛ وكما قال الشاعر :
* بَلَى شَيءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيءٍ * وأَحْيَاناً وبَاطِلُهُ كَثِيرُ *
ومعناه : يوافق بعض شيء أحياناً ، والواو ملغاة ؛ وكما قال الآخر :
* فإنّ رَشِيداً وابْنَ مَرْوَانَ لم يَكُنْ * لِيَفْعَلَ حَتّى يُصْدِرَ الأَمْرَ مَصْدَرَا *
ومعناه : فإن رشيد بن مروان ؛ وقال الآخر :
* إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ * ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ *
والواو في هذه المواضع دخولها وخروجها سواء .
فثبت بما ذكرنا أن قوله : { فأَنَّ لله خُمُسَهُ } على أحد المعنيين اللذين ذكرنا ؛ وجائز أن يكونا جميعاً مرادَيْنِ لاحتمال الآية لهما ، فينتظم تعليمنا افتتاح الأمور بذكر الله تعالى وأن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى ، فكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس وكان له الصفيّ وسهم من الغنيمة كسهم رجل من الجند إذا شهد القتال . وروى أبو حمزة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : " آمُرُكُمْ بأَرْبَعٍ :شَهَادَةِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وتُقِيمُوا الصَّلاةَ وتُعْطُوا سَهْمَ الله مِنَ الغَنَائِمِ والصَّفِيّ " .
واختلف السلف في سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، فروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد ابن الحنفية قال : " اختلف الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذي القربى ، فقالت طائفة : سهم الرسول للخليفة من بعده ، وقالت طائفة سهم ذي القربى لقرابة الخليفة ، وأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكُرَاعِ والعدّة في سبيل الله " . قال أبو بكر : سهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان له ما دام حيّاً ، فلما توفي سقط سهمه كما سقط الصفيُّ بموته ، فرجع سهمه إلى جملة الغنيمة كما رجع إليها ولم يعد للنوائب .
واخْتُلِفَ في سهم ذوي القربى ، فقال أبو حنيفة في الجامع الصغير : " يقسم الخمس على ثلاثة أسهم : للفقراء والمساكين وابن السبيل " . وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : " خمس الله والرسول واحد ، وخمس ذوي القربى لكل صنف سماه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس " . وقال الثوري : " سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس هو خمس الخمس وما بقي فللطبقات التي سمَّى الله تعالى " . وقال مالك : " يُعْطي من الخمس أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى ويجتهد " . وقال الأوزاعي : " خمس الغنيمة لمن سُمِّي في الآية " . وقال الشافعي : " يقسم سهم ذوي القربى بين غنيّهم وفقيرهم " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَلِذِي القُرْبَى } لفظ مجمل مفتقر إلى البيان وليس بعموم ؛ وذلك لأن ذا القربى لا يختص بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس ، ومعلوم أنه لم يُرِدْ بها أقرباء سائر الناس ، فصار اللفظ مجملاً مفتقراً إلى البيان . وقد اتفق السلف على أنه قد أُريد اقرباءُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من قال : إن المستحقين لسهم الخمس من الأقرباء هم الذين كان لهم نصرة وإن السهم كان مستحقّاً بالأمرين من القرابة والنصرة وإن من ليس له نصرة ممن حدث بَعْدُ فإنما يستحقّه بالفقر كما يستحقه سائر الفقراء ؛ ويستدلّون على ذلك بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان فقلنا : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم بمكانك الذي وضعك الله فيهم ، أرأيت بني المطلب أعطيتم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك بمنزلة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوني في جَاهِلِيَّةٍ ولا إسْلامٍ وإنَّما بَنُو هَاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " وشَبك بين أصابعه . فهذا يدل من وجهين على أنه غير مستحق بالقرابة فحسب ، أحدهما : أن بني المطلب وبني عبد شمس في القُرْبِ من النبي صلى الله عليه وسلم سواءٌ ، فأعطى بني المطلب ولم يُعْطِ بني عبد شمس ، ولو كان مستحقّاً بالقرابة لسَاوَى بينهم . والثاني : أن فِعْلَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خرج مخرج البيان لما أُجمل في الكتاب من ذِكْرِ ذي القربى ، وفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب ، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النصرة مع القرابة دلّ على أن ذلك مراد الله تعالى ، فمن لم يكن له منهم نصرة فإنما يستحقه بالفقر . وأيضاً فإن الخلفاء الأربعة متفقون على أنه لا يستحق إلا بالفقر . وقال محمد بن إسحاق : سألت محمد بن علي فقلت : ما فعل عليّ رضي الله عنه بسهم ذوي القربى حين ولي ؟ فقال : سَلَكَ به سبيل أبي بكر وعمر وكره أن يدعى عليه خلافهما . قال أبو بكر : لو لم يكن هذا رأيه لما قَضَى به ؛ لأنه قد خالفهما في أشياء مثل الجدّ والتسوية في العطايا وأشياء أُخَر ، فثبت أن رأيه ورأيهما كان سواء في أن سهم ذوي القربى إنما يستحقه الفقراء منهم . ولما أجمع الخلفاء الأربعة عليه ثبتت حجته بإجماعهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكُمْ بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي " . وفي حديث يزيد بن هرمز عن ابن عباس فيما كتب به إلى نجدة الحَرُورِيّ حين سأله عن سهم ذي القربى فقال : " كنا نرى أنه لنا فدعانا عمر إلى أن نزوج منه أَيِّمَنَا ونقضي منه عن مغرمنا فأبينا أن لا يسلمه لنا وأبى ذلك علينا قومنا " وفي بعض الألفاظ : " فأبى ذلك علينا بنو عمنا " . فأخبر أن قومه وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوه لفقرائهم دون أغنيائهم ، وقول ابن عباس : " كنا نرى أنه لنا " إخبارٌ أنه قاله من طريق الرأي ولا حظّ للرأي مع السنة واتفاق جُلِّ الصحابة من الخلفاء الأربعة . ويدل على صحة قول عمر فيما حكاه ابن عباس عنه حديثُ الزهريّ عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن عباس قالا : يا رسول الله قد بلغنا النكاح فجئناك لتؤمّرنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك ما يؤدي العمال ونُصيب ما يصيبون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغي لآلِ مُحَمَّدٍ إنَّما هي أَوْسَاخُ النَّاسِ " ثم أمر مَحْمِيَّةَ أن يصدقهما من الخمس ؛ وهذا يدلّ على أن ذلك مستحق بالفقر ، إذ كان إنما اقتضى لهما على مقدار الصداق الذي احتاجا إليه للتزوج ولم يأمر لهما بما فضل عن الحاجة . ويدلّ على أن الخمس غير مستحق قسمته على السهمان وأنه موكول إلى رأي الإمام قولُه صلى الله عليه وسلم : " ما لي مِنْ هَذَا المَالِ إِلاَّ الخُمُس والخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ " ، ولم يخصّص القرابة بشيء منه دون غيرهم ، دل ذلك على أنهم فيه كسائر الفقراء يستحقون منه مقدار الكفاية وسد الخلّة . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " يَذْهَبُ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ أَبَداً ويَذْهَبُ قَيْصَرُ فلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ أَبداً والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقُنَّ كُنُوزُهُما في سَبِيلِ الله ! " فأخبر أنه ينفق في سبيل الله ولم يخصص به قوماً من قوم . ويدل على أنه كان موكولاً إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى المؤلّفة قلوبهم وليس لهم ذكر في آية الخمس ، فدلّ على ما ذكرنا . ويدل عليه أن كل من سُمّي في آية الخمس لا يستحق إلا بالفقر وهم اليتامى وابن السبيل ، فكذلك ذو القربى ؛ لأنه سهم من الخمس . ويدل عليه أنه لما حرم عليهم الصدقة أقيم ذلك لهم مقام ما حُرِّم عليهم منها ، فوجب أن لا يستحقه منهم إلا فقير كما أن الأصل الذي أقيم هذا مقامه لا يستحقه إلا فقير .
فإن قيل : موالي بني هاشم لا تحلّ لهم الصدقة ولم يدخلوا في استحقاق السهم من الخمس . قيل له : هذا غلط ؛ لأن موالي بني هاشم لهم سهم من الخمس إذا كانوا فقراء على حسب ما هو لبني هاشم .
فإن قيل : إذا كانت قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحقّون سهمهم بالفقر والحاجة فما وجه تخصيصه إياهم بالذكر وقد دخلوا في جملة المساكين ؟ قيل له : كما خُصَّ اليتامى وابن السبيل بالذكر ولا يستحقونه إلا بالفقر ، وأيضاً لما سمَّى الله الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] الآية ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحلّ لآلِ مُحَمَّدٍ " فلو لم يسمّهم في الخمس جاز أن يظنَّ ظانٌّ أنه لا يجوز إعطاؤهم منه كما لا يجوز أن يُعْطَوْا من الصّدقات ، فسمّاهم إعلاماً منه لنا أن سبيلهم فيه بخلاف سبيلهم في الصدقات .
فإن قيل : قد أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم العباس من الخمس وكان ذا يسار ، فدلّ على أنه للأغنياء والفقراء منهم . قيل له : الجواب عن هذا من وجهين ، أحدهما : أنه أخبر أنه أعطاهم بالنصرة والقرابة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنّهم لم يُفَارِقُوني في جَاهِليةٍ ولا إسلامٍ " فاستوى فيه الفقير والغنيّ لتساويهم في النصرة والقرابة . والثاني : أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطى العباس ليفرقه في فقراء بني هاشم ولم يُعْطِهِ لنفسه .
وقد اختلف في ذوي القربى من هم ، فقال أصحابنا : " قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة هم ذوو قراباته وآله ، وهم آل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبدالمطلب " ، ورُوي نحو ذلك عن زيد بن أرقم . وقال آخرون : " بنو المطلب داخلون فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من الخمس " . وقال بعضهم : " قريش كلها من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم الذين لهم سهم من الخمس إلا أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من رأى منهم " .
قال أبو بكر : أما من ذكرناهم فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ذوو قراباته ، وأما بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس في القُرْبِ من النبي صلى الله عليه وسلم سواء ، فإن وجب أن يدخلوا في القرابة الذين تحرِّم عليهم الصدقةَ فواجب أن يكون بنو عبد شمس مثلهم لمساواتهم إياهم في الدرجة ، وأما إعطاء سهم الخمس فإنما خُصَّ هؤلاء به دون بني عبد شمس بالنصرة لأنه قال : " لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام " وأما الصدقة فلم يتعلّق تحريمها بالنصرة عند جميع الفقهاء ، فثبت أن بني المطلب ليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين تحرم الصدقة عليهم كبني عبد شمس ، وموالي بني هاشم تحرم عليهم الصدقة ولا قرابة لهم ولا يستحقّون من الخمس شيئاً بالقرابة ؛ وقد سألته فاطمة رضي الله عنها خادماً من الخمس فوكلها إلى التكبير والتحميد ولم يُعْطِهَا .
فإن قيل : إنما لم يعطها لأنها ليست من ذوي قرباه لأنها أقرب إليه من ذوي قرباه . قيل له : فقد خاطب عليّاً بمثل ذلك وهو من ذوي القربى ، وقال لبعض بنات عمه حين ذهبت مع فاطمة إليه تستخدمه : " سَبَقَكُنَّ يَتَامَى بَدْرٍ " ، وفي يتامى بدر من لم يكن من بني هاشم لأن أكثرهم من الأنصار ، ولو استحقتا بالقرابة شيئاً لا يجوز منعهما إياه لما منعهما حقهما ولا عَدَلَ بهما إلى غيرهما ؛ وفي هذا دليل على معنيين أحدهما : أن سهمهم من الخُمس أمره كان موكولاً إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعطيه من شاء منهم ، والثاني : أن إعطاءهم من الخمس أو منعه لا تعلق له بتحريم الصدقة .
وأما من قال إن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قريش كلها فإنه يحتج لذلك بأنه لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا بني فِهْرٍ يا بني عَدِيٍّ يا بني فُلان " لبطون قريش " إنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " . ورُوي عنه أنه قال : " يا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ " وأنه قال : " يا بني هَاشِمٍ يا بَني قُصَيّ يا بني عَبْدِ مَنَافٍ " ، ورُوي عنه أنه قال لعليّ : " اجْمَعْ لي بني هَاشِمٍ " وهم أربعون رجلاً . قالوا : فلما ثبت أن قريشاً كلها من أقربائه وكان إعطاء السهم من الخمس موكولاً إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه من كان له منهم نصرة دون غيرهم . قال أبو بكر : اسم القرابة واقعٌ على هؤلاء كلهم لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عند نزول قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] ، فثبت بذلك أن الاسم يتناول الجميع . فقد تعلّق بذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم أحكام ثلاثة ، أحدها : استحقاق سهم من الخمس بقوله تعالى : { وللرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى } وهم الفقراء منهم على الشرائط التي قدمنا ذكرها عن المختلفين فيها ، والثاني : تحريم الصدقة عليهم وهم آل عليّ وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر وولد الحارث بن عبدالمطلب ، وهؤلاء هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حظّ لبني المطلب في هذا الحكم لأنهم ليسوا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كانوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكانت بنو أمية من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن آله ، ولا خلاف أنهم ليسوا كذلك فكذلك بنو المطلب لمساواتهم إياه في نَسَبِهم من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والثالث : تخصيص الله تعالى لنبيه بإنذار عشيرته الأقربين ؛ فانتظم ذلك بطون قريش كلها على ما ورد به الأثر في إنذاره إياهم عند نزول الآية ، وإنما خصّ عشيرته الأقربين بالإنذار لأنه أبلغ عند نزول الآية في الدعاء إلى الدين وأقرب إلى نفي المحاباة والمداهنة في الدعاء إلى الله عز وجل ؛ لأن سائر الناس إذا علموا أنه لم يحتمل عشيرته على عبادة غير الله وأنذرهم ونهاهم أنه أوْلى بذلك منهم ، إذْ لو جازت المحاباة في ذلك لأحد لكانت أقرباؤه أوْلى الناس بها .
وقوله تعالى : { واليَتَامَى } فإن حقيقة اليُتْم هو الانفراد ، ومنه الرابية المنفردة تسمَّى يتيمةً والمرأة المنفردة عن الأزواج تسمَّى يتيمةً ، إلا أنه قد اختص في الناس بالصغير الذي قد مات أبوه ، وهو يفيد الفقر مع ذلك أيضاً عند الإطلاق ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهو لا يُحْصَوْن أن الوصية جائزة لأنها للفقراء منهم ؛ ولا خلاف أنه قد أريد مع اليتم الفقر في هذه الآية ، وأن الأغنياء من الأيتام لا حظَّ لهم فيه . ويدلّ على أن اليتيم اسمٌ يقع على الصغير الذي قد مات أبوه دون الكبير قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْمَ بَعْدَ حُلْمٍ " ، وقد قيل : إن كل ولد يتيم من قِبَلِ أمّه إلا الإنسان فإن يُتْمَهُ من قِبَلِ أبيه .
وقوله تعالى : { وابْنِ السَّبِيلِ } فإنه المسافر المنقطع به المحتاج إلى ما يتحمل به إلى بلده وإن كان له مال في بلده ، فهو بمنزلة الفقير الذي لا مال له ؛ لأن المعنى في وجوب إعطائه حاجته إليه ، فلا فرق بين من له مال لا يصل إليه وبين من لا مال له .
وأما المسكين فقد اخْتُلِفَ فيه ، وسنذكره في موضعه من آية الصدقات . وفي اتفاق الجميع على أن ابن السبيل واليتيم إنما يستحقان حقهما من الخمس بالحاجة دون الاسم دلالةٌ على أن المقصد بالخمس صرفه إلى المساكين .
فإن قيل : إذا كان المعنى هو الفقر فلا فائدة في ذكر ذوي القربى . قيل له : فيه أعظم الفوائد ، وهو أن آل النبي صلى الله عليه وسلم لما حرمت عليهم الصدقة كان جائزاً أن يظنَّ ظانٌٌّ أن الخمس محرم عليهم كتحريمها إذ كان سبيله صرفه إلى الفقراء ، فأبان الله تعالى بتسميتهم في الآية عن جواز إعطائهم من الخمس بالفقر ، ويلزم هذا السائل أن يعطي اليتامى وابن السبيل بالاسم دون الحاجة عن قضيته بأن لو كان مستحقّاً بالفقر ما كان لتسميته ابن السبيل واليتيم معنى وهما إنما يستحقانه بالفقر .