قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } يعني مع سعتها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني ضاقت صدورهم بالهمّ الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم .
قوله تعالى : { وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } يعني أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قِبَلِ العبادة له والرغبة إليه ، فحينئذ أنزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم ، وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أن لا كاشف لهمه غيره أنه سينجيه ويكشف عنه غمّه ، وكذلك حكى جلّ وعلا عن لوط عليه السلام في قوله : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } [ هود : 77 ] إلى أن قال : { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } [ هود : 80 ] ، فتبرأ من الحَوْلِ والقوة من قِبَلِ نفسه ومن قِبَلِ المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى ، حينئذ جاءه الفرج فقالوا : { إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } [ هود : 81 ] ، وقال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } [ الطلاق : 2 ] ، ومن يَنْوِ الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه ؛ فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجاً لعلمه بأنه لا ينفكّ من إحدى منزلتين : إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكي عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب : { إني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ ص : 41 ] فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به ، ولم يكن صلوات الله عليه قابلاً لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أوْلى به ، فقال الله له عند ذلك : { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } [ ص : 42 ] ؛ فكذلك كل من اتّقى الله بأن التجأ إليه وعلم أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها .
قوله تعالى { ثم تاب عليهم ليتوبوا } يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } . رَوَى ابن مسعود قال : " يعني لازم الصدق ، ولا تعدل عنه إذ ليس في الكذب رخصة " . وقال نافع والضحاك : " مع النبيين والصديقين بالعمل الصالح في الدنيا " . وقال تعالى في سورة البقرة : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] ، إلى قوله : { أولئك الذين صدقوا } [ البقرة : 177 ] ، وهذه صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ؛ ثم قال في هذه الآية : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فدلّ على لزوم اتّباعهم والاقتداء بهم لإخباره بأن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا ، وقال في هذه الآية : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فدل على قيام الحجة علينا بإجماعهم وأنه غير جائز لنا مخالفتهم لأمر الله إيانا باتباعهم .
وقوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ } فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم ؛ لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم . وهذا نصٌّ في ردّ قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم .