قوله تعالى : { يَا أَيُهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصَاصُ{[112]} في القَتْلىَ } الآية [ 178 ] : ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه وأن الخصوص بعده في قوله : { الحرُّ بالحرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ } لا يمنع من التعلق بعموم أوله ، وهذا غلط منهم ، لأن الثاني ليس مستقلاً دون البناء على الأول ، إذ قول القائل : " الحر بالحر والعبد بالعبد " لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول ، فإن الثاني ليس الأول ، وتقديره : كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصاً والعبد بالعبد قصاصاً ، فوجب بناء الكلام عليه .
قالوا : أمكن أن يقال : كتب عليكم القصاص مطلقاً ، وقوله : { الحرُّ بالحرِّ } لنفي قتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه السلام : " إن من أعتى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : رجل قتل غير قاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل أخذ بذحول الجاهلية{[113]} " . . والذي قالوه ممكن ، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه ، فتقديره : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ } وكيفيته { الحُرَّ بالحُرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ } الآية . . فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد . ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقاً من الجانبين إلا في النفس . وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص . . وقال الليث بن سعد : إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس ، ولا يقتص من الحر بالعبد . وقال : إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له ، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء . . وقال قائلون من علماء السلف : يقتل السيد بعبده ، وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص . . ، ورووا عن سَمُرة بن جندب عن النبي عليه السلام أنه قال : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه{[114]} " .
والذي ينفيه يقول : إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص{[115]} ، وولي العبد سيده ، فلا يستحق القصاص على نفسه ، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالاً من العبد إليه ، فلا ملك للعبد ، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتاً للمسلمين إرثاً ، ولا يمكن ذلك في حق العبد .
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده بلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن أبيه عن جده " أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي عليه السلام ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ولم يَقِدْه به{[116]} " ، ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه ، فسماه عبداً استصحاباً للاسم السابق . . ولهم أن يقولوا : وخبركم حكاية حال ، فيحمل على أنه كان كافراً ، أو أباح العبد له دم نفسه . .
وقال الشّافعيّ : يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف ، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي ، إلا أن الليث بن سعد قال : إذا جنى الرجل على امرأته عَقَلها ولم يقتص منه بها ، وكأنه رأى أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص . وقال عثمان البتي{[117]} : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وكذلك فيما دون النفس ، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء . . وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات{[118]} ولا مخصص ، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص . . وقال عليه السلام : " من قتل قتيلاً فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية{[119]} " ، ولم يذكر التخيير .
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة ، فمنها قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ } . . ومساق ذلك يدل على الاختصاص بالمسلم ، فإنه قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيه شَيءٌ } ، ولا يكون الكافر أخاً للمسلم ، وقال : { ذلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةَ } . وأما قوله : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً{[120]} } : فلا حجة فيه ، فإنا نجعل له سلطاناً وهو طلب الدية ، وأما قوله : { وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا{[121]} } : فإخبار عن شريعة من قبلنا لا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد ، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية ، إلا أنه يضعف . .
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلماً بكافر ، وقال : " أنا آخر من وفى بذمته{[122]} " ، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم . . وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال : " ألا لا يقتل مؤمن بكافر " {[123]} على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة ، وقد كان رجل من خُزاعة قتل رجلاً من هُذَيل بذحل الجاهلية ، فقال عليه السلام : " ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده{[124]} " فكان ذلك تفسيراً لقوله عليه السلام : " كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين " لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وذكر أهل المغازي أن عَقْد الذِّمة على الجزية كان بعد فتح مكة ، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مُدَد ، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه ، وكان قوله يوم فتح مكة : " لا يقتل مؤمن بكافر " منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه . . ويدل عليه قوله عليه السلام : " ولا ذو عهد في عهده " ، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة ، ولذلك قال : " ولا ذو عهد في عهده " ، كما قال الله تعالى : { فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ{[125]} } ، وقال : { فَسيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ{[126]} } وكان المشركون حينئذ ضربين : أحدهما : أهل الحرب ، والآخر : أهل العهد ، ولم يكن هناك أهل ذمة ، فانصرف الكلام إلى الضربين{[127]} ، وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة . . {[128]}
وقال عثمان البتي : يقتل الوالد بولده ، للعمومات في القصاص ، وروى مثل ذلك عن مالك ، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن ، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يقتل والد بولده{[129]} " ، وحكم به عمر بمحضر من الصحابة واشتهر بينهم ، فكان كقوله : " لا وصية لوارث " في الاشتهار . . وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الأول{[130]} وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقاد الوالد بالولد " . . ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإنْسَان بِوَالِدَيْهِ حُسْنَاً{[131]} } الآية ، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب ، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن ، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعاً ، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركاً . . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه ، وكان مشركاً محارباً لله ورسوله ، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد ، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول . .
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلماً فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم ، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين ، فيجعل الكل كشخص واحد . وإذا قدر ذلك تعظيماً للقتل ، فإذا قتل أحدهما عمداً والآخر خطأ فالمخطىء في حكم آخذ جميع النفس ، فيثبت لجميعها حكم الخطأ ، وانتفى منها حكم العمد ، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع ، وثبوت حكم العمد للجميع ، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه .
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود ، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد ، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع ، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأَرْش{[132]} لشيء منها . . وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أباً فلا قصاص على الأجنبيّ ، فإن المحل متى كان واحداً وخرج فعل الأب عن كونه موجباً{[133]} لأنه لم يصادف المحل ، صار أيضاً الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل .
وخروج الروح به شبهة في المحل ، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل ، وكل{[134]} ذلك لحصول مثل الخطأ للنفس المتلفة ، ولا جائز أن يكون خطأ عمداً موجباً للمال والقود في حالة واحدة{[135]} ، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها ، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود ، فيصير حينئذ محكوماً للجميع بحكم الخطأ ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد . وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما ، فلا قطع على واحد منهما . . فإن قيل : فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه ، قيل : ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة ، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ ، وانتفى عنه حكم العمد المحض ، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجني عليه واستحالة تبعضه ، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه .
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها ، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ ، لولا ذلك لوجب جميع الدية ، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعاً ؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط ، ودل ذلك على{[136]} سقوط القود وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ ، فلذلك توزعت الدية عليهم قوله تعالى : { كُتِبَ عَلْيكُمْ القِصَاصُ في القَتْلى } ، وقال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النّفْسََ بِالنّفْس }{[137]} وقال تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً }{[138]} الآية . . . وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر ، وهو أنه يتعين القود في العمد ، لأنه تعالى قال : { النّفْسُ بالنّفْسِ } وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين ، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول{[139]} المطلق ، بل الواجب أحد الأمرين . . مثاله أنه إذا قيل لنا : ما الواجب بالحنث في اليمين ؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام ، بل نقول : أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه ، فإذا لم يكن المال واجباً بالقتل وجب القود على الخصوم .
وروي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ ، ومن قتل عمداً فقود يده ، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين{[140]} " . ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما ، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر . . وعلى القول الآخر يحتج بقوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } . . الآية ، وهذا يحتمل معاني :
أحدها : أن العفو ما سهل ، قال الله تعالى : { خُذِ العَفْوَ }{[141]} يعني ما سهل من الأخلاق ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله " {[142]} يعني تسهيل الله على عباده . وقال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يعني الولي إذا أعطى شيئاً من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان ، فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا تسهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال عند ذكر القصاص في سورة المائدة ، { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ{[143]} } ، فندبه إلى العفو والصدقة ، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني ، لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي بالاتباع ، وأمر الجاني بالأداء بإحسان ، وهذا خلاف الظاهر من وجهين :
أحدهما : أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه ،
والثاني : أن الضمير في " له " يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص ، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله : { كُتِبَ عَلَيْْكُمُ القِصَاصُ } ، والولي لا ذكر له فيما تقدم حتى ينصرف الضمير إليه ، إلا أنه يستظهر بظاهر قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ } وذلك يدل على أن القصاص هو المكتوب دون غيره . .
التأويل الثاني : ما قاله ابن عباس قال : كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية ، فقال الله تعالى لهذه الأمة : { كُتِبَ عليكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ } إلى قوله تعالى : { فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء } . . قال ابن عباس : فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، { فَاتّباعٌ بالمعروفِ وأَدَاءٌ إليهِ بإحْسَانٍ } قال : على هذا أن يتبع بالمعروف ، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان ، { ذلكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة } فيما كان كتب على من قبلكم ، { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ، قال : ذاك بعد قبوله الدية ، فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية ، وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل ، تخفيفاً من الله تعالى علينا ، ورحمة بنا .
ولو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال : فالعفو بأن يقبل الدية ، لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له غيره ، ولو لم يكن أراد ذلك لقال : إذا اختار الولي ، وكأن المقصود بذلك أن الذي قاله الله تعالى أنه كتب لم يعن به أنه كتب على وجه لا يمكن إسقاطه برضا من كتب له مثل ما كان على بني إسرائيل ، بل يجوز إسقاطه ، فإذا جاز إسقاطه رغب في إسقاطه من جهة من عليه القصاص بالمال ، فهذان معنيان . .
المعنى الثالث للآية ما رواه سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال : كان بين حيّين من العرب قتال ، فقتل من هذا ومن هذا ، فقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل الرجلين ، وارتفعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : القتلى بواء - أي سواء - فاصطلحوا على الديات ، ففضل لأحد الحيين على الآخر ، فهو قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِِصَاصُ } . . إلى قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيِهِ شَيْءٌ } . . قال سفيان بن حسين : { فمن عفي له من أخيه شيء } يعني فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان أن العفو ها هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ ، قال الله تعالى : { ثُمَّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيِّئَةِ الحَسَنَة َ حَتّى عَفَوْا{[144]} } . يعني حتى كبروا فسمنوا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " اعفوا اللحى " ، فتقدير الآية : فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف ، وليؤد إليه بإحسان . .
المعنى الرابع : أنهم قالوا في الدم بين جماعة إذا عفا عنهم تحول أنصباء الآخرين مالا ، وقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخيهِ شَيْءٌ } يدل على وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه ، فيتحول نصيب الشركاء مالاً ، فعليهم اتباع القائل بالمعروف ، وعليه أداؤه إليهم بإحسان . .
والإتباع بالمعروف أن لا يكون بتشدد وإيذاء ، وعلى المطلوب منه الأداء بإحسان ، وهو ترك المطل والتسويف ، { ذَلِكَ تَخْفِيِفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةً } أي جواز العفو على مال تخفيف ، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة ، { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي قتل القاتل بعد أخذ الدية ، { فَلَهُ عَذَابٌ أَليم } .
المعنى الخامس : أخذ ولي الدم المال بغير رضا القاتل ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله ، فقيل لهؤلاء : العفو لا يكون مع أخذه ، ألا ترى أن النبي عليه السلام قال : " العمد قود إلا أن يعفو الأولياء " {[145]} فأثبت له أحد السببين من قتل أو عفو ، ولم يثبت له مالا ، فلئن قيل : إنه إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافياً وتناوله لفظ الآية ، قيل له : لو كان الواجب أحد سببين لجاز أيضاً أن يكون عافياً بتركه المال ، وأخذ القود ، فلا ينفك الولي في اختيار أحدهما من عقد{[146]} قتل أو أخذ المال ، وهذا بعيد .
ويجاب عنه بأن يقال : عفا لسقوط أثر المال في حق من عليه القود بالإضافة إلى القتل ، وإذا عدل عن المال إلى القتل لم يظهر لإسقاط المال وقع ، فلا يقال : عفا ، فإن يؤذن بتخفيف وترفيه عرفا ، وإن كان العدول عن أحدهما إلى الآخر عفواً عن المعدول عنه وإسقاطاً له .
فقيل لهم : فهذا ينفيه الظاهر من وجه آخر ، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بتركه القود وأخذه المال ، فإنه لا يقال عفا له - وإنما يقال عفا عنه - إلا بتعسف ، فيقيم اللام مقام عن ، أو بحمله على أنه عفا له عن الدم ، فيضم حرفاً غير مذكور .
وعلى تأويل من يخالفه : العفو بمعنى التسهيل ، وهو أن يسهل له القاتل إعطاء الأموال ، كما يقال : سهل الله لك كذا ويسر لك ، فيكون العفو بمعنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال ، ولأن قوله : { مِنْ أخيه شيء } يقتضي التبعيض .
وعلى أحد قولي الشافعي هو عفو عن جميع الدم لا عن شيء منه ، فمتى حمل على الجميع كان مخالفاً مقتضى الكلام ، وفي الحمل على كل محمل حيد عن الظاهر من بعض الوجوه ، فلا يبعد أن يكون الجميع مراداً ، فإن اختيار الدية يوجب إسقاط القصاص ، حتى لو أراد العدول إليه بعده لا يجوز . وشهد لأحد القولين قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بِالنّفْسِ } الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الربيع حين كسرت بنته جارية : " كتاب الله تعالى القصاص " أخبر أن موجب الكتاب القصاص ، فإن قوله { كُتِبَ عَليكُم القِصاصُ } محكم ظاهر المعنى ،
وقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيِهِ شَيء } محتمل للمعاني والمتشابه يجب رده إلى المحكم ، وقوله تعالى { عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمَعْرُوفِ } يدل على أن دية العمد على القاتل .