قال الله تعالى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ } ، الآية :[ 8 ] : فجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها .
وعندهم أن اللعان حد ، والحد يدرأ العذاب ، وهي لا عذاب عليها ، وهي لا تحبس لعين الحبس ، وإنما تحبس للعان ، فلعانها يدرأ لعانها على هذا التقدير .
فانظر كيف توالت غلطات الخصم في فهم معنى{[1558]} هذه الآية ، وقال : لو أتى بمعظم كلمات اللعان ، قام مقام الكل ، وهو خلاف القرآن ، وخلاف قياس الحد أيضاً ، فإنه لا يكتفي فيه بالأكثر ، وإذا ثبت فساد نظر من يخالف ، فنذكر ما رآه الشافعي ، قال رحمه الله :
إن الله تعالى شرع اللعان ، وعلمنا يقيناً أن شرع اللعان رخصه لمكان الحاجة ، فلما تأملنا الحاجة ، قلنا يجوز أن يكون الأصل في تلك الحاجة هي والنسب الذي يتعرض للثبوت ، ولا طريق إلى نفيه إلا باللعان ، فكان اللعان موضوعاً أصلياً لهذا المعنى ، وإنما جوز اللعان في النكاح ، مع إمكان قطع النكاح بطريق آخر ، لأن الزوج لما أراد أن يعيرها ويفضحها بما صدر منها ، فجعل الشرع اللعان مشروعاً في النكاح دون النسب ، وهذا المقصود قريب ، بالإضافة إلى مقصود رفع النسب .
وإذا ثبت ذلك وجب شرع اللعان دون النكاح لأجل الولد ، حتى إذا طلق امرأته ثلاثاً وادعت حملاً ، فللزوج أن يلاعن ، وعلى هذا اللعان في النكاح والوطء بالشبهة ، فإن رضي الله عنه فهم أمراً آخر فقال : إذا قذف امرأته بأجنبي وسماه في اللعان ، فلا حد عليه للأجنبي ، فإنه صار مصدقاً شرعاً في تلك الواقعة ، فصار ذلك شبهه في درء الحد عنه ، فهذا نوع من القياس فهمه في موضع الرخصة لفهم خصوص الحاجة .
وأبو حنيفة ، رأى أن اللعان حجة خاصة شرعت في النكاح ، فلا يثبت إلا في النكاح ، ولا شك أن الذي قاله إعراض عن المعنى الخاص المفهوم من وضع اللعان ، على أنه ناقص من وجهين : أحدهما : أن الله تعالى قال : { يَا أَيّهَا النَبِيُّ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ{[1559]} } ، وقال : { وإذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ{[1560]} } ، فحكم بطلاق النساء ، ثم إنه صار إلى طلاق البائنة المختلفة من غير نكاح ، مع أن الطلاق من خاصة النكاح ، فهلا كان كذلك ، بل هذا إلى ترجيح ، وذلك أنه ليس في إيقاع الطلاق على المختلفة حاجة معقولة شرع الطلاق لأجلها في الأصل ، بل الحاجة التي شرع الطلاق لأجلها معدومة في حق المختلفة ، فأما هاهنا ، فالحاجة التي شرع اللعان لأجلها ، التي لا تدفع لها إلا باللعان متحققة في النكاح الفاسد ، وبعد الطلاق ، فأولى بصحة اللعان . والوجه الآخر في الترجيح ، هو أنا إذا شرعنا اللعان في حق المطلقة ، لم يخصص ولم يناقض ، وقلنا الولد بنفي اللعان دون النكاح مطلقاً ، وأبو حنيفة إذا أوقع الطلاق بعد البينونة ، لم يمكنه إخراج الطلاق عن كونه متعلقاً بالنكاح ، فإنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد خلافاً لأحمد ، ولا بعد البينونة وانقضاء العدة ، وإن بقيت له طلقتان عليها ، واعتقد في ذلك أنا لو نفذنا الطلاق عليها ، صار المحل ينقاد تصرفه فيه مبتذلاً من غير ولاية له عليه ، وذلك في غاية البعد ، إذا لم يكن المحل بالتصرف متأثراً ، ولا يزول بالتصرف عن المحل حكم وصفه ، وإذا جوزوا تصرف الأجنبي موقوفاً من حيث إن المحل لا يتأثر به ، والطلاق إذا لم يكن له حكم ظاهر في المحل ، فيجب أن يقع على الأجنبية ، وإن هم زعموا أنه يفوت حل المحل ، وذلك تأثيراً يظهر في المحل ، فيقتضي هذا أن يكون حكم الطلاق الذي هو خاصية النكاح تفويت ما يستفاد بأصل الولادة ، غير متعلق بالنكاح ، وذلك جهل مفرط . . وعلى أن الذي ذكر من جواز الابتذال في مدة العدة ، إنما يفعل إذا كان جنس العدة مقتضى ولا نية ، فأما إذا كان حكماً شرعياً يثبت حيث لا نكاح كالنكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يقع به الطلاق أصلاً ، وهذا كلام معترض غير متعلق بمقصودنا ولا محيص لهم عنه .
وناقضوا أيضاً وقالوا : لو قذف امرأته وماتت بعد القذف بطلاق أو غيره ، فلا حد عليه ولا لعان ، وقالوا : لا ينتفي الحمل باللعان ، مع أن الخبر إنما ورد في الحمل وحده .
ولما رأى الشافعي اللعان حجة خاصة قال : قذف الزوجة مثل قذف الأجنبية ، لأنها محصنة عفيفة مثل الأجنبية ، ويجب على غيره الحد بقذفها ، ويجب عليه الحد بقذف مثلها ، إلا أن الشرع جعل اللعان مخلصاً ، فإذا امتنع من اللعان ، كان على قياس الأجنبي يقذف الأجنبية ، وهذا بين معلوم من القرآن ، وإذا كان اللعان خاصاً في حق الأزواج ، فالشافعي يقول : جعله الشرع حجة وصدقة فيها ، وجعل لها طريقاً إلى مدافعة حجته فقال : { ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } ، فلا بد من إثبات عذاب ، ولا يجوز أن يكون ذلك العذاب سجناً ، فإن الحبس لا يراد لعينه ، وإنما يراد لغيره ، فلا بد أن يكون الحبس لطلب أمر وراء الحبس يحبس لأجله ، ولا يجوز أن يكون الأمر هو اللعان ، فإنها ربما كانت كاذبة في لعانها ، فكيف يجوز إجبارها على اللعان ، وقد قال كثير من العلماء : إن العذاب في عرف الشرع عبارة عن الحد ، سيما إذا عرف بالألف واللام ، وذلك ينصرف إلى المعهود ، وهذا لا بأس به ، وإن كان يرد عليه بأن العذاب قد لا يختص بالحد ، قال الله تعالى : { إلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ ألِيمٌ{[1561]} } ، ولم يرد الحد ، وقال تعالى : { لأُعَذِّبَنهُ عَذَاباً شَدِيداً{[1562]} } ، ولم يرد به الحد .
ويهون الجواب عن كل ذلك ، وليس في التقصي عنه كبير فائدة ، فإن الغرض يحصل دونه .
إذا ثبت ذلك ، فقد قال عثمان البتي : لا أرى ملاعبة الزوج امرأته ينقص شيئاً ، وأحب أن يطلق ، والذي ذكره قوي من حيث المعنى والتوقيف ، إذ ليس في كتاب الله أنه إذا لاعن ولاعنت يجب وقوع الفرقة ، وورد في الأخبار الصحاح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ، وألحق الولد بالابن{[1563]} . . وقال عليه الصلاة والسلام : " المتلاعنان لا يجمعان{[1564]} " ، " ولو بقي النكاح إلى وقت التفريق فهما مجتمعان{[1565]} " .