الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } . فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : ( جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ ، وَإِنِّي أَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا ، وَهَا أَنَا فَاقْضِ فِي بِمَا قَضَيْت . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَك اللَّهُ لَوْ سَتَرْت عَلَى نَفْسِك . فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ . . . } . فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ . . . } الآية . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : هَذَا لَهُ خَاصَّةً . فَقَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً ) . وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وأَقِمْ الصَّلَاةَ } هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ مُتَضَمِّنَةٍ ذِكْرَ الصَّلَاةِ هَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْأُولَى .
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } . الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } إلَى : { تَرْضَى } . الرَّابِعَةُ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } إلَى : { السُّجُودِ } . الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } إلَى : { تُظْهِرُونَ } . السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنْ اللَّيْلِ } الآية . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ هِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِهَا ، وَكُلُّ آيَةٍ مِنْهَا تَأْتِي مَشْرُوحَةً فِي مَكَانِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَصَلَاةَ الْعَشِيِّ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ .
الثَّالِثُ : تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ اخْتِلَافًا لَا يُؤَثِّرُ ، فَتَرَكْنَا اسْتِيفَاءَهُ ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدُوا بِالِاخْتِلَافِ زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ، فَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْعَتَمَةُ ، وَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْمَغْرِبُ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ فِي تَفْصِيلِ تَأْوِيلِهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالزُّلَفِ ، فَإِذَا أَرَدْنَا سُلُوكَ سَبِيلِ التَّحْقِيقِ قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَقَدْ أَخْرَجَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَنْهَا . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ فَقَدْ أَسْقَطَ الْعَصْرَ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَصْرُ وَالصُّبْحُ فَقَدْ أَسْقَطَ الظُّهْرَ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّهَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَبَاقِيهَا فِي اللَّيْلِ ، فَزُلَفُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ : فِي ابْتِدَائِهِ ، وَهِيَ الْمَغْرِبُ ، وَفِي اعْتِدَالِ فَحْمَتِهِ ، وَهِيَ الْعِشَاءُ ، وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ وَهِيَ الصُّبْحُ .
وَأَمَّا طَرَفَا النَّهَارِ فَهُمَا الدُّلُوكُ وَالزَّوَالُ وَهُوَ طَرَفُهُ الْأَوَّلُ ، وَالدُّلُوكُ الْغُرُوبُ ، وَهُوَ طَرَفُهُ الثَّانِي . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ) .
وَالْعَجَبُ مِنْ الطَّبَرِيِّ الَّذِي يَقُولُ : إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ وَهُمَا طَرَفَا اللَّيْلِ ، فَقَلَبَ الْقَوْسَ رَكْوَةً ، وَحَادَ مِنْ الْبُرْجَاسِ غَلْوَةً .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ ، وَلَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ، وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ أَنْجَبُ لِقَوْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) . وَقَدْ قَرَنَهَا بِهَا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ نَفْلًا وَفَرْضًا . وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ لَا وَاجِبًا فَإِنَّمَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ ، وَلَا نَفْلًا فَإِنَّ الْأَوْرَادَ مَعْلُومَةٌ ، وَأَوْقَاتُ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا مَحْصُورَةٌ ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ يَسْتَرْسِلُ عَلَيْهِ النَّدْبُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْعُمُومِ ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ بَشَرٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ ، فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا ) . قَالَ عُرْوَةُ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا } . وَقَالَ مَالِكٌ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ } .
فَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ يَعْنِي عُثْمَانَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ لَمَا ذَكَرْته . وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَعْنِي عُثْمَانَ : لَوْلَا أَنَّ مَعْنَى مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ذَكَرْته لِئَلَّا تَتَّهِمُونِي .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ ، فَعَلَيْهِ يَرْجِعُ آخِرُهَا ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : ( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ ) . وَرُوِيَ : مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ . وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ .
وَقَدْ رُوِيَ ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْآيَةِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : أَشَهِدْت مَعَنَا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا فَعَلْت ) وَرُوِيَ أَنَّ ( النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لَهُ : قُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ) ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .