الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَوْلُ فِي الْوَفَاءِ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَعْدِيدِ عُهُودِ اللَّهِ ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ ، مُسْتَمِرَّةُ الْمَدَدِ وَ الْأَمَدِ . أَعْظَمُهَا عَهْدًا ، وَأَوْكَدُهَا عَقْدًا مَا كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ .
الثَّانِي : مَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثُ : مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنَّهَا أَلْزَمَتْ عُهُودًا ، وَرَبَطَتْ عُقُودًا ، وَوَظَّفَتْ تَكْلِيفًا ، وَذَلِكَ يَتَعَدَّدُ بِعَدَدِ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا ، مِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْعِرْفَانِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنَّك إلَّا تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .
وَمِنْهَا الِانْكِفَافُ عَنْ الْعِصْيَانِ ، وَأَقَلُّهُ دَرَجَةً اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَلَا تَسْأَلَ سِوَاهُ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ من كِبَارِ الْعُبَّادِ ، سَمِعَ أَنَّ نَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفْعَهُ إلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ : رَبِّ ، إنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّك إذْ رَأَوْهُ ، وَأَنَا أُعَاهِدُك أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا . قَالَ : فَخَرَجَ حَاجًّا من الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَبينَما هُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ بِاللَّيْلِ إذْ بَقِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِعُذْرٍ ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ ، فَبينَما هُوَ يَمْشِي إلَيْهِمْ إذْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي قَعْرِهِ قَالَ : أَسْتَغِيثُ ؛ لَعَلَّ أَحَدًا يَسْمَعُنِي فَيُخْرِجُنِي ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ الَّذِي عَاهَدْته يَرَانِي وَيَسْمَعُنِي ، وَاَللَّهِ لَا تَكَلَّمْت بِحَرْفٍ لِبَشَرٍ ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا إذْ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِئْرِ نَفَرٌ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ قَالُوا : إنَّهُ لَيَنْبَغِي سَدُّ هَذِهِ الْبِئْرِ ، ثُمَّ قَطَعُوا خَشَبًا ، وَنَصَبُوهَا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَغَطَّوْهَا بِالتُّرَابِ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ قَالَ : هَذِهِ مَهْلَكَةٌ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : أَلَيْسَ الَّذِي عَاهَدْت يَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَسَكَتَ وَتَوَكَّلَ ، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ ، فَإِذَا بِالتُّرَابِ يَقَعُ عَلَيْهِ ، وَالْخَشَبُ يُرْفَعُ عَنْهُ ، وَسَمِعَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : هَاتِ يَدَك . قَالَ : فَأَعْطَيْته يَدِي ، فَأَقَلَّنِي فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ إلَى فَمِ الْبِئْرِ ، فَخَرَجْت وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ سَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ : كَيْفَ رَأَيْت ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ ؟ وَأَنْشَدَ :
نَهَانِي حَيَائِي مِنْك أَنْ أَكْتُمَ الْهَوَى *** وأغْنَيْتنِي بِالْعِلْمِ مِنْك عَنْ الْكَشْفِ
تَلَطَّفْت فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي *** إلَى غَائِبِي وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ
تَرَاءَيْت لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَمَا *** تُخَبِّرُنِي بِالْغَيْبِ أَنَّك فِي كَفِّي
أَرَانِي وَبِي من هَيْبَتِي لَك وَحْشَةٌ *** فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْك وَبِالْعَطْفِ
وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي الْحُبِّ حَتْفُهُ*** وَذَا عَجَبٍ كَوْنُ الْحَيَاةِ مَعَ الْحَتْفِ
فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ؛ فَبِهِ فَاقْتَدُوا تَهْتَدُوا .