الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قِرَاءَتِهَا :
قَرَأَهَا الْجَمَاعَةُ الْكَذِبَ بِنَصْبِ الْكَافِ ؛ وَخَفْضِ الذَّالِ ، وَنَصْبِ الْبَاءِ . وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ ، إلَّا أَنَّ الْبَاءَ مَخْفُوضَةٌ ، وَقَرَأَهَا قَوْمٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ . فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى يَكُونُ فِيهَا الْكَذِبُ عَلَى الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ مَا يَقُولُونَ . وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَالذَّالَ جَعَلَهُ نَعتا لِلْأَلْسِنَةِ . وَمَنْ نَصَبَ الْكَافَ وَالْبَاءَ جَعَلَهُ مَفْعُولَ قَوْلِهِ : تَقُولُوا ، وَهُوَ بَيِّنٌ كُلُّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى الْآيَةِ :
لَا تَصِفُوا الْأَعْيَانَ بِأَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ من قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ ؛ إنَّمَا الْمُحَرِّمُ الْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : أَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ ، وَعَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِضَلَالِهِمْ ، وَاعْتِدَاءً ، وَإِنْ أَمْهَلَهُمْ الْبَارِي فِي الدُّنْيَا فَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي مَالِكٌ : لَمْ يَكُنْ من فُتْيَا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّا نَكْرَهُ هَذَا ، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا ، فَكَانَ النَّاسُ يُطِيعُونَ ذَلِكَ ، وَيَرْضَوْنَ بِهِ . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ من الْأَعْيَانِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ ، وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ : إنِّي أَكْرَهُ كَذَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ؛ اقْتِدَاءً بِمنْ تَقَدَّمَ من أَهْلِ الْفَتْوَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، أَنَّهَا حَرَامٌ وَتَكُونُ ثَلَاثًا . قُلْنَا : سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَنَقُولُ هَاهُنَا : إنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ، فَأَلْزَمَهُ مَالِكٌ مَا الْتَزَمَ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَقْوَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : إنَّهَا حَرَامٌ ، أَفْتَى بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ ، وَقَدْ يَتَقَوَّى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْد الْمُجْتَهِدِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، كَمَا يَقُولُ : إنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي الرِّبَا ، وَهِيَ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ ، وَالْبُرُّ ، وَالشَّعِيرُ ، وَالتَّمْرُ ، وَالْمِلْحُ ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ مَالِكٌ ، فَذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَصْلُحُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِحَ ، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَقَاصِدِ ، لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ .