الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ ، أَصْلُهَا رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : " أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ من الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ ، فِيهِمْ حَمْزَةُ ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ : فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الْآيَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إلَّا أَرْبَعَةً ) " .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ ( النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ ، فَنَظَرَ إلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ مِنْهُ لِقَلْبِهِ ، وَنَظَرَ إلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ ، فَقَالَ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك ، فَإِنَّك كُنْت - مَا عَرَفْتُك - فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَك عَلَيْك لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَك ، حَتَّى تُحْشَرَ من أَفْرَادٍ شَتَّى أَمَا وَاَللَّهِ مَعَ ذَلِكَ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ . فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ النَّحْلِ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الْآيَاتِ ؛ فَصَبَرَ النَّبِيُّ ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَمْ يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ عُقُوبَةٌ ؛ فَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَيْسَ بِعُقُوبَةٍ ، وَلَكِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ، كَمَا قَالَ : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ، وَكَمَا قَالَ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ؛ وَعَادَةُ الْعَرَبِ هَكَذَا فِي الِازْدِوَاجِ ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى حُكْمِ اللُّغَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ من قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عُودٍ اُمْتُثِلَ فِيهِ مَا فَعَلَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } : إشَارَةٌ إلَى فَضْلِ الْعَفْوِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .