الْآيَةُ الثَّانِيَة عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : " رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ من مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ ، إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ! لَيَهْلِكُنَّ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ " ؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُهَاجِرِينَ ، وَكَانُوا يُمْنَعُونَ ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الضَّحَّاكُ : اسْتَأْذَنَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، فَقِيلَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } فَلَمَّا هَاجَرَ نَزَلَتْ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ، وَهَذَا نَاسِخٌ لِكُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ من إعْرَاضٍ وَتَرْكٍ وَصَفْحٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّسْخِ الثَّانِي من عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى { أُذِنَ } أُبِيحَ ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِبَاحَةِ كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ من الشَّرْعِ ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ قَبْلَ الشَّرْعِ ، لَا إبَاحَةً وَلَا حَظْرًا إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَبَيَّنَهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ بَعَثَ رَسُولَهُ وَدَعَا قَوْمَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَصَرَّفُوا إلَّا بِأَمْرٍ ، وَلَا فَعَلُوا إلَّا بِإِذْنٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجَّةِ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللَّهِ دُعَاءً دَائِمًا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ فِي الطُّغْيَانِ ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ ، وَحِينَ أَعْذَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ ، وَأَبَوْا عَنْ الصِّدْقِ أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْقِتَالِ ، لِيَسْتَخْرِجَ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قُرِئَ يُقَاتِلُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا ؛ فَإِنْ كَسَرْت التَّاءَ كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ ، وَإِنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ من أَجْلِ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَفِي فَتْحِ التَّاءِ بَيَانُ سَبَبِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَعَمَّدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْإِذَايَةِ ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالنِّكَايَةِ : لَقَدْ خَنَقَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ ، فَتَدَارَكَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ } وَقَدْ بَلَغَ بِأَصْحَابِهِ إلَى الْمَوْتِ ؛ فَقَدْ قَتَلَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ . وَقَدْ عُذِّبَ بِلَالٌ ، وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَّا الِانْتِصَارُ بِالْقِتَالِ .
وَالْأَقْوَى عِنْدِي قِرَاءَةُ كَسْرِ التَّاءِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَمَّا فَعَلُوا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَخْرَجَ الْبُعُوثَ ، ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .