الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ من نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمِمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَنَمَاءُ الْحَيَوَانِ .
وَالْمَاءُ الْمُنَزَّلُ من السَّمَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَهُ فِيهَا مُخْزُونَا لِسُقْيَا النَّاسِ ، يَجِدُونَهُ عُدَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ ، وَمَا يُسْتَخْرَجُ من الْآبَارِ .
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ من السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، أَهُوَ فِي الْخَرِيفِ فِيمَا بَلَغَك ، قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ؛ بَلْ هَذَا فِي الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْزِلُ مَاؤُهُ من السَّمَاءِ إذَا شَاءَ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرٌ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُحْتَمَلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ من السَّمَاءِ مَاءً ، فَأَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُنَزِّلُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَيَكُونُ مِنْهُ غِذَاءٌ ، وَمِنْهُ اخْتِزَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يَعْنِي قَوْلَهُ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا } ، وَقَوْلَهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } يَعْنِي الْمَطَرَ ، { وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } يَعْنِي النَّبَاتَ . وَهَذَا يَكُونُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : " إنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ من مَطَرٍ فِي عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ ، وَإِنَّهُ مَا نَزَلَ من السَّمَاءِ مَاءٌ إلَّا بِحِفْظِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِ ، إلَّا مَا كَانَ من مَاءِ الطُّوفَانِ ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمَلَكُ " ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ الْتَقَيَا عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَزَلَ من السَّمَاءِ بِالْإِقْلَاعِ ، فَلَمْ تَمْتَصَّ الْأَرْضُ من قَطْرِهِ ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ بِابْتِلَاعِ مَا خَرَجَ مِنْهَا فَقَطْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَك وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَشْرَبْ من مَاءِ السَّمَاءِ قَطْرَةً .
نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : قَوْلُهُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ ذَاتُ الْمَطَرِ ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا من إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْهَا .
وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا تَرُدُّ مَا أَخَذَتْ من الْأَرْضِ من الْمَاءِ ؛ إذْ السَّحَابُ يَسْتَقِي من الْبَحْرِ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ :
* شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ *
يَعْنِي السَّحَابَ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ ، وَهِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ جَائِزَةٌ ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ أَثَرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } : يَعْنِي لَقَادِرُونَ عَلَى إذْهَابِ الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيَهْلَكُ النَّاسُ بِالْعَطَشِ ، وَتَهْلَكُ مَوَاشِيهِمْ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } وَقَدْ قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَهَذَا عَامٌّ فِي مَاءِ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ الْمُخْتَزَنِ فِي أَرْضٍ ، فَصَارَتْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ عَامَّةً وَهِيَ آيَةُ الطَّهُورِ . وَالْآيَةُ الْأُخْرَى خَاصَّةً وَهِيَ مَاءُ الْقَدْرِ الْمُسْكَنِ فِي الْأَرْضِ ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ من السَّمَاءِ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ) ، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَنْزَلَ اللَّهُ من الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ : سَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ وَجَيْحُونَ ، وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ ، وَدِجْلَةَ ، وَالْفُرَاتِ ، وَهُمَا نَهَرَا الْعِرَاقِ ، وَالنِّيلَ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ من عَيْنٍ وَاحِدَةٍ من عُيُونِ الْجَنَّةِ فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ من دَرَجَاتِهَا ، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ ) ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } .
فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ من الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ ؛ فَيَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى السَّمَاءِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ إنْ صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ من أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَيْحُونُ وَجَيْحُونُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ من أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ) . وَهَذَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } يَعْنِي بِهِ نَهْرًا يَجْرِي ، وَعَيْنًا تَسِيلُ ، وَمَاءً رَاكِدًا فِي جَوْفِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، وَذَكَرَ مَا أَنْشَأَ من الْمَاءِ وَمِنْ النَّبَاتِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .