الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا من بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ من طَعَامٍ وَاحِدٍ ، وَيَقُولُونَ : الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا من بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا من أَهَالِيِهِمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ - وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عِنْدَ الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا من بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ ، فَكَانُوا يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ : نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَالطَّعَامُ هُوَ من أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ ؛ فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ؛ وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ .
الْخَامِسُ : مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ من هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ . السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا ، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا .
السَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى ، وَمُعَامَلَتِهِمْ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ .
الثَّامِنُ : قَالَ الْحَسَنُ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } : نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ . وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ . وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ : من الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بُيُوتِكُمْ }
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ :
الْأَوَّلُ : يَعْنِي من أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ .
الثَّانِي : من بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : ( أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك ) . وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ من ذِكْرِ الْأَنْفُسِ ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ } فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ من جِهَةِ النَّسَبِ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا . فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ ؛ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ من مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْكُلَ من بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ من الْآبَاءِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَإِنَّمَا قَالُوا : { فَمَا لَنَا من شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ من غَيْرِهِ .
أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ من أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى : لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا من بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا } يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ من الْأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ ، لَكِنْ قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى ، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، من أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى لاَ عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ . وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا ، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ ، وَمَا يَتَعَذَّرُ من الْأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَأَرْكَانِهَا ، وَالْجِهَادِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنًا : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَأْكُلُوا من بُيُوتِكُمْ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ ، وَتَفْسِيرٌ مُفِيدٌ ، لَا يُفْتَقَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى نَقْلٍ ، وَيُعَضِّدُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ ؛ فَأَمَّا الْأَكْلُ من مَالِ الْأَزْوَاجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ عَنْهَا ، وَلَا مُحْرَزٍ مِنْهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ من مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ ) .
وَأَمَّا مَا كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَأْكُلُ من مَالِ زَوْجِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ ، لَكِنْ الزَّوْجَةُ أَبْسَطُ ، لِمَا لَهَا من حَقِّ النَّفَقَةِ ، وَلِمَا يَلْزَمُهَا من خِدْمَةِ الْمَنْفَعَةِ .
وَأَمَّا بَيْتُ الِابْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَبَيْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ ، لَكِنْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ ، فَلَا يَتَبَسَّطُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي هَتْكِ حِرْزٍ وَأَخْذِ مَالٍ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ مُسْتَرْسِلًا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ حِيَازَةٌ ، وَلَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ فَسَادٍ وَلَا اسْتِغْنَامٍ .
وَأَمَّا بَيْتُ الْأَبِ لِلِابْنِ فَمِثْلُهُ ، وَلَكِنْ تَبَسُّطُ الِابْنِ أَقَلُّ من تَبَسُّطِ الْأَبِ ، كَمَا كَانَ تَبَسُّطُ الزَّوْجِ أَقَلَّ من تَبَسُّطِ الزَّوْجَةِ .
وَأَمَّا بُيُوتُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا بَيْتٌ مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فَهُوَ الْوَكِيلُ قَالَ النَّبِيُّ : ( الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ ) . وَلَابُدَّ لِلْخَازِنِ من أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَخْزُنُ إجْمَاعًا ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْخَزْنِ حَرُمَ الْأَكْلُ .
وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : ( بُيُوتِكُمْ ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ : ( بُيُوتِكُمْ ) ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْتَ الِابْنِ يَدْخُلُ فِيهِ ؛ فَبَيْتُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِإِجْمَاعٍ .
وَأَمَّا بَيْتُ الصَّدِيقِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ الْأُخُوَّةُ جَرَى التَّبَسُّطُ عَادَةً ، وَفِي الْمَثَلِ : أَيُّهُمْ أَحَبُّ إلَيْك أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقِي .
قَالَ لَنَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَوْقٍ قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ إمَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ : عَزِيزٌ من يَصْدُقُ فِي الصَّدَاقَةِ ، فَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهِ كَالْمِرْآةِ وَمِنْ وَرَائِك كَالْمِقْرَاضِ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قُلْت : مَنْ لِي بِمَنْ يَثِقُ الْفُؤَادُ بِوُدِّهِ *** وَإِذَا تَرَحَّلَ لَمْ يَزِغْ عَنْ عَهْدِهِ
يَا بُؤْسَ نَفْسِي من أَخٍ لِي بَاذِلٍ *** حُسْنَ الْوَفَاءِ بِقُرْبِهِ لَا بُعْدِهِ
يُولِي الصَّفَاءَ بِنُطْقِهِ لَا خُلْقِهِ *** وَيَدُسُّ صَابًا فِي حَلَاوَةِ شَهْدِهِ
فَلِسَانُهُ يُبْدِي جَوَاهِرَ عِقْدِهِ *** وَجَنَانُهُ تُغْلِي مَرَاجِلَ حِقْدِهِ
لَاهُمَّ إنِّي لَا أُطِيقُ فِرَاسَةً *** بِك أَسْتَعِيذُ من الْحَسُودِ وَكَيْدِهِ
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَمَامِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ من قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي كِنَانَةَ ؛ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقِيمُ عَلَى الْجُوعِ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ ، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ مَوْرُوثَةً عِنْدَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَعَ غَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ من الْعَرَبِ كَانُوا إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا عَنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْكُلُوا مَعَهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ : آكُلُ وَحْدِي .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِينَ يَخْلِطُونَ أَزْوِدَتَهُمْ ، فَلَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ ، فَأُبِيحَ ذَلِكَ لَهُمْ .
وَهَذَا الْقَوْلُ تَضَمَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْآخَرِ ، وَلِلْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُمْ لَا يَنْضَبِطُ ، فَقَدْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَالْآخَرُ كَثِيرًا ، وَقَدْ يَأْكُلُ الْبَصِيرُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْأَعْمَى ، فَنَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَبَاحَ لِلْجَمِيعِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْمَعْهُودِ ، مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا إلَى الزِّيَادَةِ ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نَهَى عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ ) . وَهَذَا هُوَ النِّهْدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرًى مِنْهُمْ ، أَوْ كَانَ بِخَلْطِهِمْ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ طَعَامَ ضِيَافَةٍ أَوْ وَلِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْكُلُ من مَالِ غَيْرِهِ ؛ لَاسِيَّمَا وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ طَعَامَ الضِّيَافَةِ وَالْوَلِيمَةِ يَأْكُلُهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَنَا فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي النِّهْدِ حَدِيثَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الْأَزْوَادِ ، وَكَانَ يُغَدِّيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً تَمْرَةً . وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ وَمَنْعِهِ من ذَلِكَ ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَادَ الْجَيْشِ ، وَبَرَّكَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ احْتَثَى كُلُّ أَحَدٍ فِي مِزْوَدِهِ وَوِعَائِهِ من غَيْرِ تَسْوِيَةٍ ، حَتَّى فَرَغُوا ، وَاشْتِقَاقُهُ من الْخُرُوجِ ، يُقَالُ : نَهَدَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ ، وَنَهَدَ الْقَوْمُ لِغَزْوِهِمْ ، وَنَهَدَ الْجَمَاعَةُ : إذَا أَخْرَجُوا طَعَامًا أَوْ مَالًا ، ثُمَّ جَمَعُوهُ ، وَأَكَلُوا أَوْ أَنْفَقُوا مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ }
فِي الْبُيُوتِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْبُيُوتُ كُلُّهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ، لِعُمُومِ الْقَوْلِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : إذَا دَخَلْتُمْ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى مَا فِيهَا من ضَيْفِكُمْ .
الرَّابِعُ : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَارِغَةً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، قُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِي الْمُخْتَارِ من هَذِهِ الْأَقْوَالِ :
وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } فَنَصَّ عَلَى بُيُوتِ الْغَيْرِ ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } ؛ أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ ، لِيَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ بَيْتٍ ، كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ ، وَقَالَ : { عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لِيَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ سَلَامَ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ ، وَلِيَأْخُذَ الْمَعْنَى سَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
وَهَذَا إذَا كَانَ فَارِغًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَخَدَمُهُ فَلْيَقُلْ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّحِيَّةِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : ( لسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ) . وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْبَيْتَ الْفَارِغَ .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ إذَا كَانَ الْبَيْتُ فَارِغًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّلَامُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَلَكَ فَالْمَلَائِكَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ بِحَالٍ ، أَمَّا إنَّهُ إذَا دَخَلْت بَيْتَكَ يُسْتَحَبُّ لَك ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بِأَنْ يَقُولَ : { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ، وَأَوْضَحْنَا مَجْرَاهُ ، وَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَانَ النِّسَاءُ يُسَلِّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ ، وَلَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّهَا خُلْطَةٌ وَتَعَرُّضٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً ؛ إذْ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمُنْتَهَى .