الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ من الْغَائِبِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ من الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ ، كَالْغَمَامَةِ ، فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ : اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ من قُرْبِهِ ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ سُلَيْمَانُ : مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ . وَلَمْ يَقُلْ : مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ !
قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ : قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ : إنَّمَا قَالَ : مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ ؛ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ . فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا ، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ ، فَقَالَ : مَالِي !
وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ . هَذَا فِي الْآدَابِ ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ !
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ من سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ ؟
وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ : " لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ !
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا : قِفْ يَا وَقَّافٍ . كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً : إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ . وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ ، عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى :
إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ *** وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ
وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا *** يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ
غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ *** وَسَلَّهُ من ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ *** رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ