الآية الخامسة : قوله تعالى : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ : رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي ، إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى : في حقيقة النَّذْر ، وهو التزام الفِعْل بالقول مما يكونُ طاعة للهِ عزّ وجل ، من الأعمال قُرْبة .
ولا يلزم نَذْر المباح . والدليل عليه ما روي في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائماً : فسأل عنه فقالوا : نذر أن يقومَ ولا يقعد ولا يستظلّ ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مروه فليَصُم وليقعد وليستظل » ؛ فأخبره بإتمام العبادة ونهاه عن فِعْل الْمُباح .
وأما المعصية فهي ساقطة إجماعاً ؛ ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَنْ نذر أن يُطيع الله فليطِعْه ، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يَعْصِه » .
المسألة الثانية : في تعليق النَّذْر بالحمل :
اعلموا - علمكم الله - أنَّ الحمل في حيِّز العدم ؛ لأنَّ القضاء بوجوده غير معلوم لاحتمال أن يكون نفخ في البطن لعلَّة وحركة خلط يضطرب ، وريح ينبعث ، ويحتمل أن يكون لولد ؛ وقد يغلب على البطن كلُّ واحد منهما في حالة ، وقد يشكل الحال ؛ فإن فرضنا غلبة الظنّ في كونه حملاً فقد اتفق العلماءُ على أنَّ العقودَ التي تَرِدُ عليه وتتعلَّق به على ضَرْبَين :
أحدهما : عقد معاوضة .
والثاني : عقد مُطْلَق لا عوضية فيه .
فأما الأول - وهو عَقْد المعاوضة - فإنه ساقط فيه إجماعاً ، بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بَيْع حَبَل الْحَبلة » .
والحكمةُ فيه أنَّ العقدَ إذا تضمَّنَ العوَض وجب تنزيههُ عن الجهالة والغَرَر في حصول الفائدة التي بذل المرءُ فيها ماله ، فإذا لم يتحقَّقْ حصولُ تلك الفائدة كان مِن أكل المال بالباطل .
وأما الثاني : وهو العقد المطلق المجرَّدُ من العِوَض كالوصية والهِبَة والنذْرِ فإنه يرِدُ على الحمل ؛ لأنَّ الغرر فيه مُنْتف إذ هو تبرُّع مجرّد ؛ فإن اتفق فيها ونعمت ، وإن تعذّر لم يستضر أحَد .
المسألة الثالثة : في معنى الآية :
قال علماؤنا : كان لعمران بن ماثان ابنتان : إحداهما حِنّة والأخرى يلمشقع ، وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داود عليه السلام ، وكان في ذلك الزمان لا يحرَّرُ إلا الغِلْمان ، فلما نذرت قال لها زوجها عمران : أرأيتك إن كان ما في بطنك أنثى كيف نفعل ؟ فاهتمّت لذلك فقالت : إني نذرتُ لك ما في بطني محرَّراً ، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . وذلك لأنها كانت لا ولدَ لها ، فلما حملَتْ نذرت إن اللهُ أكْمَلَ لها الْحَمْلَ ووضعته فإنه حَبْسٌ على بيت المقدس .
المسألة الرابعة : قال أشهب عن مالك : جعلَتْه نَذْراً تفي به . قالوا : فلما وضَعَتْها ربَّتْها حتى ترعرعَتْ ، وحينئذ أرسلَتْها .
وقيل : «لفَّتْها في خِرَقِها وقالت : رَبِّ إني وضعتُها أنثى ، وليس الذكَرُ كالأنثى ، وقد سَمَّيْتُها مَرْيم ، وإني أعيذُها بك وذرِّيَّتَها من الشيطان الرجيم ، وأرسلَتْها إلى المسجد وفاءً بنذرها ، كما أشار إليه مالك ، وتبريّاً منها حين حررَتْها للهِ ، أي خلصتها .
والمحرر والحرّ : هو الخالص من كل شيء .
المسألة الخامسة : لا خلاف أنَّ امرأةَ عمران لا يتطرَّقُ إلى حملها نذر لكونها حُرّةً ، فلو كانت امرأتُه أَمَةً فلا خلافَ أنَّ المرء لا يصحُّ له نَذْر ولده كيف ما تصرفَتْ حاله ؛ فإنه إنْ كان الناذر عَبْداً لم يتقرر له قولٌ في ذلك ، وإن كان الناذرُ حرّاً فولدُه لا يصحُّ أن يكونَ مملوكاً له ؛ وكذلك المرأة مثله ؛ وأي وَجْه للنذر فيه ؟
وإنما معناه - والله أعلم - أنَّ المرء إنما يريد ولدَه للأنس به والاستبصار والتسلّي والمؤازرة ؛ فطلبت المرأةُ الولدَ أُنساً به وسكوناً إليه ، فلما مَنَّ الله تعالى عليها به نذرت أنَّ حظَّها من الأُنس به متروكٌ فيه ؛ وهو على خدمة الله تعالى موقوف . وهذا نذْرُ الأحرارِ من الأبرار ، وأرادَتْ به محرّراً من جهتي ، محرراً من رِقِّ الدنيا وأشغالها . فتقبَّلْه مِنّي .
وقد قال رجل من الصوفية لأمّه : يا أمّاه ؛ ذَرِيني لله أتعبّد له وأتعلَّم العلم . فقالت : نعم ، فسار حتى تبصّر ثم عاد إليها فدقّ الباب ، فقالت : مَنْ ؟ قال : ابنك فلان . قالت : قد تركناك لله ولا نعوذ فيك .
المسألة السادسة : قوله : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } .
يحتمل أن تُرِيدَ به في كونها تحيض ولا تَصْلُحُ في تلك الأيام للمسجد . ويحتمل أن تريد بها أنها امرأة فلا تصلُح لمخالطة الرجال ؛ وعلى كلّ تقدير فقد تبرَّأتْ منها ، ولعلَّ الحجابَ لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام .
وفي صحيح الحديث : «أنَّ امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم » . وفيه اختلافٌ في الرواية كثير .
المسألة السابعة : رواية أشهب عن مالك تدلُّ على أنَّ مذهبَه التعلّق بشرائع الماضين في الأحكام والآداب ؛ وقد بيّناه في أصول الفقه .
المسألة الثامنة : لو صح أنها أسْلَمَتْها في خِرَقِها إلى المسجد فكفَلَها زكريّا لكان ذلك في أنَّ الحضانة حَقٌّ للأم أصلاً .
وقد اختلفت فيه روايةُ علمائنا على ثلاثة أقوال : أحدها أنَّ الحضانةَ حقٌّ لله سبحانه . الثاني : أنها حقٌّ للأم . الثالث : أنها حقٌّ للولد . وقد بيناه في مسائل الفروع بواضح الدليل .
المسألة التاسعة : على أيّ حال كان القول والتأويل فإنَّ الآية دليلٌ على جواز النذْرِ في الْحَمْلِ ، وكل عقد لا يتعلق به عوض بدليل إجماعهم على نفوذ العتْق فيه ، والنذْرُ مثله .
المسألة العاشرة : فال بعضُ الشافعية : الدليل على أنَّ المطاوِعَة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساوِيه في وجوب الكفّارة عليهم قوله تعالى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } .
قال القاضي ابنُ العربي : وعجباً لغَفْلَتِه وغَفْلة القاضي عبد الوهاب عنه حين تكلم عليه وحاجّه فيه ، وهذا خَبرٌ عن شَرْع مَنْ قبلنا ؛ ولا خلافَ بين الشافعية عن بكْرَة أبيهم أنَّ شرعَ من قبلنا ليس شرعاً لنا ، فاسكُتْ واصمت . ثم نقول لأنفسنا : نحن نعلم من أصول الفِقْهِ الفَرْقَ بين الأقوال التي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد العموم ، والتي جاءت بلفظ العموم وهي على قَصْد الخصوص . وهذه الصالحةُ إنما قصدَتْ بكلامها ما تشهدُ له بينةُ حالها ومقطعُ كلامها ؛ فإنها نذَرتْ خِدْمَة المسجد في ولدها ، ورأته أنثى لا تصلُح أن تكونَ بَرْزَة ، وإنما هي عَوْرَة ؛ فاعتذرَتْ إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدَتْه فيها ، وقد بينَّا في أصول الفقه العمومَ المقصودَ به العموم وغيره ، وساعدنا عليه ابن الجويني ، وحققناه ؛ فلينظر هنالك .
المسألة الحادية عشرة : قالت : إني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فكانت المعاذةُ هي وابنها عيسى ، فيها وقع القبولُ من جملة الذرية ، وهذا يدلُّ على أن الذرية قد تقعُ على الولد خاصة ، وقد بينّا ذلك في مسألة العقب من الأحكام . وفي سورة الأنعام . والله أعلم .