الْآيَةُ الْخَامِسَة عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ ، فَعَذَرَنِي ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ ، كُنْت من الطُّلَقَاءِ قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] لَا يُعْرَفُ إلَّا من حَدِيثِ السُّدِّيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ من طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَحْلَلْنَا لَك }
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَزْوَاجَك }
وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا ، أَوْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ ؟
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ ؟ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
قِيلَ : إنَّ الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ أَيْ كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عُمُومًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ عِنْدَك ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { آتَيْت } خَبَرٌ عن أَمْرٍ مَاضٍ ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ هَاهُنَا ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا ، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ .
وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِدَّةٍ من النِّسَاءِ نِكَاحَهُ ، فَذَكَرْنَا عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ ؛ وَهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ . وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ أَسَدُ خُزَيْمَةَ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ ، وَمَاتَ عن تِسْعٍ ، وَسَائِرُهُنَّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورَاتٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَمَّا إحْلَالُ غَيْرِهِنَّ فَلَا ؛ لِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ } ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ غَيْرِهِنَّ من بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ ، وَقَوْلُهُ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ } يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ } يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ من الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا من السَّمَاءِ ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك } يَعْنِي السَّرَارِيَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا ، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ ؛ وَكَانَ ذَلِكَ من خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك }
وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ من عَمَلِهِ ، وَيَطَأُ من مَلْكِ يَمِينِهِ ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ ، لَا من الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ) .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك }
الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك من الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ من الصِّنْفَيْنِ من الْمُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ هَاهُنَا ؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا ؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا . فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ ، فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ من قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ ، من أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك }
وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْكِحَ من بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ من لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ) .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَيْسَ من أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ من وَلَايَتِهِمْ من شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ ، وَمَنْ لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { هَاجَرْنَ } خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا أَصَحُّ من الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ الْخُرُوجُ من بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ ، وَالْأَسْمَاءُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا ، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْهَرُ من أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مَعَك } صُحْبَتِهِ إذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ يُقَالُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي ، أَيْ فِي صُحْبَتِي ، فَكُنَّا مَعًا ، وَتَقُولُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي ، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فِيهِ عَمَلُكُمَا وَلَوْ قُلْت : خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ ، وَالِاقْتِرَانُ فِيهِ ؛ فَصَارَ قَوْلُك : " مَعِي " لِلْمُشَارَكَةِ ، وَقَوْلُك : " مَعًا " لِلْمُشَارَكَةِ وَالِاقْتِرَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَبَنَاتِ عَمِّك } فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا . وَقَالَ : { وَبَنَاتِ عَمَّاتِك } فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ : وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ . وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : نَسْخُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ بِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ } فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ ، وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . الثَّانِيَةُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فِي جُمْلَةِ النِّسَاءِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْمَذْكُورَاتِ من بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ ، وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُسْلِمَاتِ ، وَالْمُهَاجِرَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ .
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ أَيْضًا صِيَانَةً لَهُ ، وَتَكْرِمَةً لِقَدْرِهِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ قَدْ رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ }
وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي . الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ .
وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ لِلْمُفَسِّرِينَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، خَطَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ .
وَقِيلَ : وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ شَرِيكٍ الْأَزْدِيَّةِ ، وَقِيلَ الْعَامِرِيَّةِ ، وَاسْمُهَا غَزِيَّةُ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَعُرْوَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَرِدْ من طَرِيقٍ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَارِدَةٌ بِطُرُقٍ من غَيْرِ خُطُمٍ وَلَا أَزِمَّةٍ ، بِيدَ أَنَّهُ رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي مَجِيءِ الْمَرْأَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُقُوفِهَا عَلَيْهِ ، وَهِبَتِهَا نَفْسَهَا لَهُ من طَرِيقٍ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي الصِّحَاحِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ثَبَتَ سَنَدُهُ ، وَصَحَّ نَقْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَبْت نَفْسِي لَك ؛ فَسَكَتَ عَنْهَا ، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ .
وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ لَمَا سَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إذَا سَمِعَهُ ، حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ كَانَتْ بِالْإِحْلَالِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ مُنْتَظِرًا بَيَانًا ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِيرِ ؛ فَاخْتَارَ تَرْكَهَا وَزَوَّجَهَا من غَيْرِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُلُ لَهَا طَالِبًا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ ، عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغَارُ من اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَتْ : أَمَا تَسْتَحِي امْرَأَةٌ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } فَقُلْت : مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك .
فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ أَنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ عِدَّةٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً أَمْ لَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً }
الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً تَهَبُ نَفْسَهَا من غَيْرِ صَدَاقٍ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي آتَى أُجُورَهُنَّ . وَهَذَا مَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ فَزَادَهُ فَضْلًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { مُؤْمِنَةً }
وَهَذَا تَقْيِيدٌ من طَرِيقِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّشْرِيفِ ، لَا من طَرِيقِ دَلِيلِ الْخِطَابِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ .
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا ؛ فَإِنَّهُ مَا كَانَ من جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَمَا كَانَ من جَانِبِ النَّقَائِصِ فَجَانِبُهُ عَنْهَا أَظْهَرُ ، فَجَوَّزَ لَنَا نِكَاحَ الْحَرَائِرِ من الْكِتَابِيَّاتِ ، وَقُصِرَ هُوَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لِنُقْصَانِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلَّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ }
قُرِئَتْ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ وَكَسْرِهَا ، وَقَرَأَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا بِالْكَسْرِ ، عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ . تَقْدِيرُهُ وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ سِوَى ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إنْ مَحْذُوفًا ، وَتَقْدِيرُهُ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ حَلَّتْ لَهُ . وَهَذَا فَاسِدٌ من طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيُعْزَى إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَاحِدَةً حَلَّتْ لَهُ ، لِأَجْلِ أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ من وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ تِلَاوَةً ، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا .
الثَّانِي : أَنْ تُوجِبَ أَنْ يَكُونَ إحْلَالًا لِأَجْلِ هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَبْلَ الْهِبَةِ بِالصَّدَاقِ .
وَقَدْ نُسِبَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ فِي قِرَاءَتِهِ " أَنْ " فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا ذَكَرْنَا من أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْهِبَةِ ، وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ مَفْهُومٌ من قَوْلِهِ : { خَالِصَةً لَك } لَا من جِهَةِ الشَّرْطِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَهَبَتْ نَفْسَهَا }
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ من جُمْلَةِ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِجَارَةٌ مُبَايِنَةٌ لِلْإِجَارَاتِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ أُجْرَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْلُهُ : { إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا }
مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا ؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ من مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ من الْوَاهِبِ هِبَتَهُ ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { خَالِصَةً لَك }
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : خَالِصَةً لَك : إذَا وَهَبَتْ لَك نَفْسَهَا أَنْ تَنْكِحَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَتَادَةُ . وَقَدْ أَنْفَذَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ نِكَاحَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي السَّمَاءِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ من الْخَلْقِ ، وَلَا بَذْلِ صَدَاقٍ من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِحُكْمِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَمَالِك الْعَالَمِينَ .
الثَّانِي : نِكَاحُهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لَك ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِك [ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ .
قَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَصَحُّ من الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } فَأَمَّا سُقُوطُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا ذِكْرٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ من دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ النِّكَاحَ ؛ وَإِنَّمَا شُرِعَ لِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِالْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ ، وَخَوْفِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ ، وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فِي بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ، مَزِيَّةً عَلَى الْأُمَّةِ ، وَهَيْبَةً لَهُ ، وَمَرْتَبَةً خُصَّ بِهَا ؛ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ ، وَمَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ وَأَفْعَالٌ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ ؛ وَحُلِّلَتْ لَهُ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَلَّلْ لَهُمْ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، أَفَادَنِيهَا الشَّهِيدُ الْأَكْبَرُ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ لِمَكَانِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، وَتَعَلُّقِ الْمَعْنَى فِيهِ إشَارَةً مُوجِزَةً ، تَبِينُ لِلَّبِيبِ وَتُبْصِرُ الْمُرِيبَ ، فَنَقُولُ :
أَمَّا قِسْمُ الْفَرِيضَةِ فَجُمْلَتُهُ تِسْعَةٌ :
الْأَوَّلُ : التَّهَجُّدُ بِاللَّيْلِ .
الثَّانِي : الضُّحَى .
الثَّالِثُ : الْأَضْحَى .
الرَّابِعُ : الْوِتْرُ ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّهَجُّدِ .
الْخَامِسُ : السِّوَاكُ .
السَّادِسُ : قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا .
السَّابِعُ : مُشَاوِرَةُ ذَوِي الْأَحْلَامِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ .
الثَّامِنُ : تَخْيِيرُ النِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَجُمْلَتُهُ عَشْرَةٌ :
الْأَوَّلُ : تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ .
الثَّانِي : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِ ، وَفِي آلِهِ تَفْصِيلٌ بِاخْتِلَافٍ .
الثَّالِثُ : خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ ، أَوْ يَنْخَدِعَ عَمَّا يُحِبُّ ، وَقَدْ ذَمَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إذْنِهِ ؛ ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ .
الرَّابِعُ : حَرَّمَ عَلَيْهِ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْهُ ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَارِبِهِ ، وَيَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ من الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَيْرِ .
الْخَامِسُ : الْأَكْلُ مُتَّكِئًا .
السَّادِسُ : أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ .
السَّابِعُ : التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِهِ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُ امْرَأَةٍ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ .
التَّاسِعُ : نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ .
الْعَاشِرُ : نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْلِيلِ فَصَفِيُّ الْمَغْنَمِ .
الثَّانِي : الِاسْتِبْدَادُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ أَوْ الْخُمْسِ .
الثَّالِثُ : الْوِصَالُ .
الرَّابِعُ : الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
الْخَامِسُ : النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ .
السَّادِسُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ .
السَّابِعُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، فَفِي الصَّحِيحِ ( أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
التَّاسِعُ : سُقُوطُ الْقَسَمِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } .
الْعَاشِرُ : إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا ، وَحَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَمْرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَيْفَ وَقَعَ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ؛ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَيْضًا .
الثَّانِيَ عَشَرَ : دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَفِي حَقِّنَا فِيهِ اخْتِلَافٌ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقِتَالُ بِمَكَّةَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً من نَهَارٍ ) .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَا يُورَثُ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا ذَكَرْته فِي قِسْمِ التَّحْلِيلِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَارَبَ الْمَوْتَ بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ خَالِصًا ، وَبَقِيَ مِلْكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : بَقَاءُ زَوْجِيَّتِهِ من بَعْدِ الْمَوْتِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً ، هَلْ تَبْقَى حُرْمَتُهُ عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَحُ ؟ .
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَتَأْتِيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مَشْرُوحَةٌ فِي تَفَارِيقِهَا ، حَيْثُ وَقَعَتْ مَجْمُوعَةٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَوْسُومِ بِالنَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إعْرَابِ قَوْلِهِ : { خَالِصَةً لَك } ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ فِيهِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ حَالٌ من ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ ، تَقْدِيرُهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً ، أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قِيلَ : هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ نِكَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ فِيهِ من الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِهِ ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ : ( قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّك ) . وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ : وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَلَابُدَّ بَعْدَهُ من عَقْدٍ مَعَ الْوَلِيِّ ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ من الصَّدَاقِ ، وَلَهُ جَاءَ الْبَيَانُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ تزوج ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ من الْهِبَةِ ، وَهُوَ سُقُوطُ الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ .
الرَّابِعُ : إنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ من هَذَا اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا خَالِصَةً ، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ : { خَالِصَةً } حَالًا من الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ ، لَكَانَ إخْلَالًا من الْقَوْلِ ، وَعُدُولًا عن الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَرَبِيَّةً ، وَلَا مَعْنًى .
أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت : أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ ، وَهُوَ الْحَدِيثُ ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ ، فَلَوْ قُلْت عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا ، دُونَ الصِّفَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { خَالِصَةً } يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ ، لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ من الْعَرَبِيَّةِ .
وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَكِتَابِ الْأُصُولِ . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ قَوْلُهُ : { مَا فَرَضْنَا } وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ من ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَقَرَّرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ ، بِخِلَافِهِ ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي تَشْرِيعِهِ وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ } أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى السَّعَةِ ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " بَيَانًا شَافِيًا .
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ بِذُنُوبِهِمْ ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّونَ ؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ بَلْ زَادَهُمْ من فَضْلِهِ ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ - عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ من الْمُبْتَدِعَةِ - أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِيهِمْ ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُلِّ ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .