الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَ ، وَسِتْرَهُ لَمَّا انْسَدَلَ قَالَ الْآبَاءُ : كَيْفَ بِنَا مَعَ بَنَاتِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْجُنَاحَ : فَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ : لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي سَدْلِ الْحِجَابِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُنَّ بِالسَّتْرِ عن الْخَلْقِ ، وَضَرَبَ الْحِجَابَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ أَسْقَطَ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ هَاهُنَا من الْقَرَابَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الْعَمَّ فِيهَا وَلَا الْخَالَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِأَبْنَائِهِمَا .
وَقِيلَ : لَمْ يَذْكُرْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ ، بِدَلِيلِ نُزُولِهِمَا مَنْزِلَتَهُمَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : إنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا .
وَالثَّانِي : مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، لِابْنِهِ ، كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْحَفِيدِ .
وَالثَّالِثُ : مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ ، كَالْعَمِّ وَالْخَالِ ، بِحَسْبِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْهَا فِي الْحُرْمَةِ .
فَمَنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا . وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ جَازَ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا خَاصَّةً ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ زِينَتِهَا . وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ جَازَ الْوَضْعُ لِجِلْبَابِهَا وَرُؤْيَةُ زِينَتِهَا .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ وَضْعِ الْجِلْبَابِ فِي سُورَةِ النُّورِ ، وَحُكْمَ الْعَمِّ من الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِمَا يُغْنِي بَيَانُهُ عن إعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } فَخَصَّ بِهِ النِّسَاءَ ، وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ، لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِنَّ وَكَثْرَةِ اسْتِرْسَالِهِنَّ .