الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ ؛ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الْهَيْبَةُ . وَالثَّانِي : بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ . وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ الْمُلْكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } . وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ كَثْرَةُ الْمُلْكِ ، فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَلِكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا ذَا مُلْكٍ حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَقُوتًا لَمْ يَكُنْ مُلْكًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِضَرُورَةِ الْآدَمِيَّةِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ ؛ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ لَهُ : غَفَّارٌ . قَالَ : مَا لِي وَلِغَفَّارٍ ! ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ ، فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ : لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ عَظِيمًا . فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ ، وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ » .
وَلَمْ يُرِدْ الْعَبَّاسُ نَفْيَ الْمُلْكِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي نِسْبَةِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُجَرَّدِ الْمُلْكِ ، وَتَرْكِ الْأَصْلِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ . عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا ، فَنَظَرَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ : أَنْ تَوَاضَعْ ، فَقَالَ : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا » .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } . قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } : قِيلَ : هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ ، وَقِيلَ : هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ . وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُهُ : أَمَّا بَعْدُ . وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا ، فَأَمَّا عِلْمُ الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إلَهِك إنَّهُ لَنَوْعٌ من الْعِلْمِ مُجَرَّدٌ ، وَفَضْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ » .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهَا ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَضَاءَ من وَجْهِهِ بِاخْتِصَارٍ من لَفْظِهِ وَإِيجَازٍ فِي طَرِيقِهِ بِحَذْفِ التَّطْوِيلِ ، وَرَفْعِ التَّشْتِيتِ ، وَإِصَابَةِ الْمَقْصُودِ .
وَلِذَلِكَ يُرْوَى «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ ، وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَحَرَجَهُمْ الْأَسَدُ فِيهَا ، فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ ، وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، فَأَتَيْتهمْ فَقُلْت لَهُمْ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ من أَجْلِ أَرْبَعَةِ أَنَاسِيَّ ، تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمُوهُ رَفَعْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ؛ فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ ، وَلِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعِ .
فَسَخَطَ بَعْضُهُمْ ، وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ . فَقَالَ قَائِلٌ : إنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ . فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : الْقَضَاءُ كَمَا قَضَاهُ عَلِيٌّ » . وَفِي رِوَايَةٍ : «فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ عَلِيٍّ » .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى - وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ - جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ : يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ . فَحَدَّهَا حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ . فَقَالَ : أَخْطَأَ من سِتَّةِ أَوْجُهٍ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرَّوِيَّةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ .
فَأَمَّا قِصَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي . وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مَقْتُولُونَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ من الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا فَلَهُمْ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَفَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةً بِالْمُجَاذَبَةِ ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قَتَلَ ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ ، فَوَقَعَتْ الْمُحَاصَّةُ ، وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْجَارِي فِيهِ . وَهَذَا من بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ . الثَّانِي : قَوْلُهَا يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ ؛ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوفِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ حَدٌّ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ من الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ . وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ ؛ إذْ يَقُولُ : لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهُمَا ، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ أَوْ يَسْتَبِلَّ الْمَضْرُوبُ ، ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً ، وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : فِي زِنْبِيلٍ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِيهِ إجْمَاعًا . وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِيمَا سَلَفَ من هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ وَالْخِلَافِ ؛ فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : «أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ » ، حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ ، وَلِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ الْعَرَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ : { أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } ، وَكَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي سُورَةِ النُّورِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُهُ : " أَمَّا بَعْدُ «فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ » . وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ وَائِلٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ ، وَأَوَّلُ مَنْ اتَّكَأَ عَلَى عَصًا ، وَعَمَّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً .
وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُد قَالَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ ، وَالْفِقْهُ فِيهِ ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ هُوَ الْفَهْمُ وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } لِمَا فِيهِ من إيجَازِ اللَّفْظِ ، وَإِصَابَةِ الْمَعْنَى ، وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ .