الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } . الظُّلْمُ : وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا عَادَةً ، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ [ عَادَةً ] عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ ، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً ، وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ ؛ أَمْثَلُهَا أَنَّ دَاوُد حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ ، فَقِيلَ لَهُ . إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ ، فَخُذْ حِذْرَك ؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ ، وَمَنَعَ من الدُّخُولِ عَلَيْهِ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَكَتَبَ دَاوُد إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ ، إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا . فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ ، فَقُتِلَ . فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد ، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ من بَعْدِهِ ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا ، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا من بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ من قِصَّتِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ . قَالُوا : ( لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا ، وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ ؛ وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ من أُصُولِ الدِّينِ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ : لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ من الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ . وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا مَعْصِيَةٌ ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ ، وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ ، وَإِنْ أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ من جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ من الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ ، وَلَقَدْ كَانَ من حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ عَثَرُوا ، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا ؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك ؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا ، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ من هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ .
قُلْنَا : عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ مَا شَاءَ من أَخْبَارِ عَبِيدِهِ ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ ، وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ فِي مَوْلَاهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ وَالْحَدُّ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا من ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَعْنِي أَصْدَقَهُ . وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك من أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك } . وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لَا بُدَّ آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : قَدْ عَصَى الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ الْمُمْتَنَعِ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا بِفَضْلِهِ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ .
الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرَ من حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ ، فَضْلًا عَنْ التَّوَغُّلِ فِيهَا ، فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا من ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ من فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا ، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ من جَرَادٍ من ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ : يَا أَيُّوبُ ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى ، قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك " . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا ، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ من الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ من الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا : وَلِي زَوْجَتَانِ ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك . وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا ، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ ، فَعَنْ مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : «مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ من حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلُ » يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ [ كَانَ ] تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا ، " كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ " إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ من غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجِيَّتِهَا ، وَكَانَ تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلُ } تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا من النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلُ } أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ الْأَلْسِنَةُ من غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } :
فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ من أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ من الْآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ من الْمِلَلِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ ؛ وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى ، وَالْآخَرُ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى ، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى .
وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ من الْآخَرِ » .
وَقِيلَ : إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ كَذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ من هَذِهِ الْوُجُوهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ }
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ ، وَلَقَالَ : انْصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ من الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ . وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ من ذَلِكَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } :
يَعْنِي أَيْقَنَ . وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ من اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } :
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قِيلَ : إنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا . الثَّانِي : أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ من الْآخَرِ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ من الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ من الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا من دَاوُد ، وَهِيَ من ذَهَبٍ ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا ، فَفَرَّتْ من يَدِهِ ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ ، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ ، وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ من دُمُوعِ عَيْنَيْهِ ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبَ من تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ سَوْطًا ، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ ؟
قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ من النَّظْرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ ، وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ من عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ ؛ وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا ، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ ، وَيَكْفِيهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } :
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ من عَزَائِمِ السُّجُودِ أَمْ لَا ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ من قَبْلُ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } . . . . فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ ، وَنَزَلَ فَسَجَدَ » . وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ : «ص لَيْسَتْ من عَزَائِمِ الْقُرْآنِ . وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيهَا » .
وَقَدْ رُوِيَ من طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ .
وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ ، تَائِبًا من خَطِيئَتِهِ ؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ؛ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ ،
وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ { أَنَّ رَجُلًا من الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ ، وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ مَعَهُ ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا } .