الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الَّتِي قَبْلَهَا عَدَدًا فَقَدْ زَعَمَ قَوْلُهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا بِهَا مُرْتَبِطَةٌ . وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا خِطَابًا وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حُكْمًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ دُونَ اخْتِلَالٍ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَنْ تَقْصُرُوا مِن الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ } .
فَإِنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ ؛ وَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ حُدُودِهَا ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانُ صِفَةِ ذَلِكَ الْقَصْرِ مِنَ الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لَمْ يَرْتَبِطْ بِالْأَوَّلِ ، فَهَذَا بَيَانُهُ ، فَيَقُولُ : ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مِرَارًا عِدَّةً بِهَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَقِيلَ فِي مَجْمُوعِهَا : إنَّهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ صِفَةً ، ثَبَتَ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً قَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
وَاَلَّذِي نَذْكُرُهُ لَكُمْ الْآنَ مَا نُورِدُهُ أَبَدًا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ ، وَذَلِكَ عَلَى ثَمَانِي صِفَاتٍ :
الصِّفَةُ الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً » .
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَصَفّنَا صَفَّيْنِ ؛ صَفًّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيه انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ، فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا » .
الصِّفَة الثَّالِثَةُ : عَنْ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ قُدَّامُهُمْ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ » .
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ : يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ ، إنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَهُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ » .
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَابِرٌ : أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : «فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ » .
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ : يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ وَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا قِيَامًا وَرُكْبَانً »ا . قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا ، لَا أَرَى ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ السِّتُّ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ .
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ : عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ قَالَ : «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ، فَقَامَ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفٌّ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ ؛ فَقَامُوا مَقَامَهُمْ ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ وَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمُوا ، ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ مَقَامَهُمْ ، فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا » .
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ : عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ فِي الْمُصَنَّفَاتِ خَرَّجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا بَقِيَ غَيْرُهَا مِنَ السِّتِّ عَشْرَةَ صِفَةً عَلَى سِتَّةِ أَقْوَال :
الْأَوَّلُ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ سَاقِطَةٌ كُلُّهَا ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } ، فَإِنَّمَا أَقَامَ الصَّلَاةَ خَوْفِيَّةً بِشَرْطِ إقَامَةِ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا بِهِمْ .
قُلْنَا لَهُمْ : فَالْآنَ مَا يَصْنَعُونَ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَعَ الذِّكْرِ لَهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَبِوَقْتِهَا كَانَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِهَا وَاقْتِدَاءً بِمَنْ فَاتَ ، وَإِنْ قَالَ يَفْعَلُهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ } ، وَالِائْتِمَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ فِي الصَّحِيحِ : «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » ، وَاَللَّهُ قَالَ لَهُ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمُ الصَّلَاةَ } ، وَهُوَ قَالَ لَنَا : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : قَالَتْ طَائِفَةٌ : أَيُّ صَلَاةٍ صَلَّى مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الصِّحَاحِ الْمَرْوِيَّةِ جَازَ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الَّذِي يُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَيَتَحَقَّق تَأَخُّرُ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمَ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى التَّرْجِيحُ فِيمَا جُهِلَ تَارِيخُهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ لِلْفِعْلِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَحْصُولِ ، وَهَذَا كَانَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لَوْ لَا أَنَّا نَبْقَى فِي الْإِشْكَالِ بَعْدَ تَحْدِيدِ الْمُتَقَدِّمِ .
الرَّابِعُ : قَالَ قَوْمٌ : مَا وَافَقَ صِفَةَ الْقُرْآنِ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَمَا خَالَفَهَا مَظْنُونٌ ، وَلَا يُتْرَكُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لَهُ ، وَعَلَّقُوهُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ ؛ وَهَذَا مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ ، لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا كَانَتْ لِيُجْمَعَ بَيْنَ التَّحَرُّزِ مِنَ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ الْعِبَادَةِ ، فَكَيْفَمَا أَمْكَنَتْ فُعِلَتْ ، وَصِفَةُ الْقُرْآنِ لَمْ تَأْتِ لِتَعْيِينِ الْفِعْلِ . وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمُمْكِنَةِ ، وَهَذَا بَالِغٌ .
الْخَامِسُ : تَرْجِيحُ الْأَخْبَارِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لَهَا أَوْ مَزِيدِ عَدَالَتِهِمْ فِيهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَرَجَّحْنَا خَبَرَ سَهْلٍ وَصَالِحٍ ، ثُمَّ رَجَّحْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ ؛ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ فِعْلًا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونَ أَحْفَظَ لِأُهْبَةِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ :
السَّادِسُ : مِثَالُ ذَلِكَ إذَا صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي الْخَوْف .
قُلْنَا : نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ نُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الِانْتِظَارِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَةً لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَهَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ . وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِالسَّلَامِ بَعْدَ الْإِمَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ طُولٌ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ كَافِيَةٌ لِلْبَابِ الَّذِي تَصَدَّيْنَا إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا صَلَّوْا أَخَذُوا سِلَاحَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْمِلُهَا . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لَبَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا .
قُلْنَا : لَمْ يَجِب عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قُوَّةً لَهُمْ وَنَظَرًا ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الصَّلَاةِ ، فَلَا تَعَلُّقَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَاعْلَمْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } :
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ، فَرَأَوْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَانَ فُرْصَةً لَكُمْ . قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً أُخْرَى هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلَيْهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَاسْتَعِدُّوا حَتَّى تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ } :
وَهَذَا سُقْنَاهُ لِتَتَبَيَّنُوا أَنَّهَا آيَةٌ أُخْرَى فِي قِصَّةٍ غَيْر قِصَّةِ الْقَصْرِ ، وَتَتَحَقَّقُوا غَبَاوَةَ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلِّي حَالَ الْمُسَايَفَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا تَصِحُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ فِي الْخَوْفِ كَالرُّعَافِ .
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ الصَّحِيحُ : «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا » ؛ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَصِفَةِ مَوْقِفِ الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا الزِّحَافُ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا فُعِلَتْ كَمَا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فُعِلَ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ .
وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّا نَحْنُ أَسْقَطْنَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَسْقَطَ أَصْلَ الصَّلَاةِ ، فَهَذَا أَرْجَحُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ شَيْءٍ ، فَلِعُلَمَائِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : يُعِيدُونَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى اجْتِهَادِهِمْ ، فَجَازَ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَأُ ، فَعَادُوا إلَى الصَّوَابِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَالْمُضَاءُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَتَرْكُ الْإِعَادَةِ أُولَى ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ ، وَاجْتَهَدُوا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ لَا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا فِي الْخَوْفِ وَلَا فِي أَمْثَالِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةً ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحَارَبَةً .
قُلْنَا : يَا حَبَّذَا الْفَرْضَانِ إذَا اجْتَمَعَا ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَرَكَةُ لَعِبًا لَمْ تَنْتَظِمْ مَعَ الصَّلَاةِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عِبَادَةً وَاجِبَةً وَتَعَيَّنَتَا جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُصَلِّي وَيُقَاتِلُ ؛ وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «رُكْبَانًا ، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَمُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا » يُعْطِي جَوَازَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ وَالْخَوْفُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ ، وَهَذِهِ إحْدَى خَطِيئَاتِهِ ؛ فَلَهُ انْفِرَادَاتٌ يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مَقَامِ الْمُتَثَبِّتِينَ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ طَارِئَةٌ ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَجْدِيدٍ مِنْ نِيَّةٍ كَالْجُمُعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْ الظُّهْرِ ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتْ إلَى نِيَّةٍ مَحْدُودَةٍ .
قُلْنَا : رُبَّمَا قَلَبْنَا الْأَمْرَ ، فَقُلْنَا الْجُمُعَةُ أَصْلٌ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ ؟
الثَّانِي : إنَّا نَقُولُ : وَهَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ ، أَلَيْسَتْ صَلَاةُ الْقَصْرِ بَدَلًا ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ بَدَلًا آخَرَ ؟ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا بَدَلًا أَوْ أَصْلًا لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا فِي الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ وَالْهَيْئَاتِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ وَأَنْ تُسْتَأْنَفَ لَهُ نِيَّةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } :
نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ ، وَمَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ جُرْحٍ ، فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ الِاسْتِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْجَيْشَ مَا جَاءَهُ قَطُّ مُصَابٌ إلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ فِي حَذَرٍ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } .
قَالَ قَوْمٌ : هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ سَوَاءٌ ، وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ } أَيْ فَرَغْتُمْ مِنْهَا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، كَمَا قَالَ : فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ إذَا كُنْتُمْ فِيهَا قَاضِينَ لَهَا ، فَأْتُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَمُصَافَّتِكُمْ لِلْعَدُوِّ وَكَرِّكُمْ وَفَرِّكُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
يَعْنِي بِحُدُودِهَا وَأُهْبَتِهَا وَكَمَالِ هَيْئَتِهَا فِي السَّفَرِ وَكَمَالِ عَدَدِهَا فِي الْحَضَرِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ : يُصَلِّي رَاحِلًا وَرَاكِبًا ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَمَا قَدَرَ يُومِئُ إيمَاءً كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَكُونُ فِي كُلِّ حَالَةٍ حُكْمٌ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهِ وَحُكْمٌ يَنْفَرِدُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } : قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنَ الْوَقْتِ ، وَمَا أَظُنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ ؛ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ » ؛ فَدَلَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا حَقِيقَةً .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنُوطَةٌ بِوَقْتٍ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَقَدْ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتٍ إذَا زَالَ لَمْ تُفْعَلْ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْوَقْتَ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ لَا شَرْطَ فِيهِ ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِفِعْلِهَا مَضَى الْوَقْتُ أَوْ بَقِيَ . وَلَا نَقُولُ إنَّ الْقُضَاةَ بِأَمْرِ ثَانٍ بِحَالٍ . وَقَدْ رَبَطْنَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّ مَوْقُوتًا مَحْدُودًا بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُنَنٍ وَفَرَائِضَ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ لُغَةً مُحْتَمَلٌ مَعْنًى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ . قُلْنَا : قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلذِّكْرِ » ، وَكَمَا دَامَ ذِكْرُهَا وَجَبَ فِعْلُهَا وَأَدَاؤُهَا .