الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } .
فِيهَا ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : خِطَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْرِ ، وَتَلِفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانُهُمْ ؛ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَابِ ؛ إذْ كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاةً وَلَا سُكَارَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَمْرٍو - أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَخَلَطَ فِيهَا ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ فَنَزَلَتْ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وَقَالَ عَلِيُّ ابنُ أَبي طَالِب : «صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا ، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ ، فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةَ ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى . . . } الْآيَةَ . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا ، لَكِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إلَيْهَا هَاهُنَا ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } :
سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ ؛ قَالَ : يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ : لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَلْبَسْ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الصَّلَاةَ } :
وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مَعْلُومَةُ اللَّفْظِ مَفْهُومَةُ الْمَعْنَى ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ الثَّانِي ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ . سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، وَحَذْفَ الْمُضَافَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ - وَهِيَ فِلَسْطِينُ - فِي الْأَرْضِ ، وَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْ دُخُولِ مَوْضِعِهَا كَرَامَةً فَهِيَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } :
السُّكْرُ : عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَقْلِ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ النِّظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أَيْ حُبِسَتْ عَنْ تَصَرُّفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا ، وَمِنْهُ سُكْرُ الْأَنْهَارِ ؛ وَهُوَ مَحْبِسُ مَائِهَا ، فَكُلُّ مَا حَبَسَ الْعَقْلَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ سُكْرٌ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْخَمْرِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّوْمِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْفَرَحِ وَالْجَزَعِ .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّكْرِ سُكْرُ الْخَمْرِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ إبَّانَ كَانَتِ الْخَمْرُ حَلَالًا ، خَلَا الضَّحَّاك فَإِنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ سُكَارَى مِنَ النَّوْمِ ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سُكْرِ الْخَمْرِ نَهْيٌ عَنْ سُكْرِ النَّوْمِ فَقَدْ أَصَابَ ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ ؛ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ » : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ قَضَاءٍ فِي حَالِ شُغْلِ الْبَالِ بِنَوْمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ حَقْنٍ أَوْ حَزْقٍ ، فَلَا يَفْهَمُ مَعَهُ كَلَامَ الْخُصُومِ ، كَمَا لَا يَعْلَمُ مَا يَقْرَأُ ، وَلَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاةِ إذَا دَافَعَهُ الْأَخْبَثَانِ ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ ، بِأَيِّ سَبَبٍ وُجِدَتْ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، وَقَدْ أَغْنَى هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عِلْمِ سَبَبِ الْآيَةِ ، لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ؛ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ » ، فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، وَالْحَقُّ يَعْضُدُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْدِيرُ هَذَا النَّفْيِ ؟ أَتَقُولُونَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّكْرُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ؛ فَهَذَا أَيْضًا الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعَهُ مَعْنًى ، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا خِطَابٌ ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ : نَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ قِيلَ لَكُمْ : إنَّ السُّكْرَ إذَا نَافَى ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ نَافَى اسْتِدَامَتَهُ .
وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُنْتَشِي الَّذِي لَيْسَ بِسَكْرَانَ نُهِيَ أَنْ يُصَيِّرَ نَفْسَهُ سَكْرَانَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ؛ أَيْ فِي حَالِ سُكْرِكُمْ ؛ وَلَمَّا كَانَ الِاضْطِرَابُ فِي الْآيَةِ هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ . هَذَا نَصُّ كَلَامِ بَعْضِ مَنْ يُدَّعَى لَهُ التَّحْقِيقُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَةٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَزِمَهُ فِي تَقْدِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ يَلْزَمُهُ فِي تَقْدِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ .
وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلصَّاحِي ، يُقَالُ لَهُ : لَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ بِحَالٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَتَخْلِطَ كَمَا فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِهَا عُمَرُ .
وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمَاتِ مَعْقُولٌ ؛ وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَاحٍ ، فَإِذَا شَرِبَ وَعَصَى وَسَكِرَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالْعِقَابُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ الْمُنْتَشِي وَهُوَ يَعْقِلُ النَّهْيَ ، لَكِنَّ اسْتِمْرَارَ الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَانْتِظَامِهِ رُبَّمَا يَفُوتُهُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ وَأَنْتَ مُنْتَشٍ أَمْرًا لَا تَقْدِرُ عَلَى نِظَامِهِ كُلِّهِ ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا يَنْسِجُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِنْوَالِ الصَّحَابَةِ ، وَمَا فِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْإِسْكَارُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقَدْ نَرَى الْإِنْسَانَ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ صَلَاتَهُ لِشُغْلِ بَالِهِ ، فَلَا يَشْعُرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكْمُلَ ، وَلَا بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَا كَانَ عَدَدُهُ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : «إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ » .
قُلْنَا : إنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِشْعَارُ وَإِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ ، فَإِنْ ذَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُومِحَ فِيهِ مَا لَمْ يُكْثِرْ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعِبَادِ بِهِ ؛ وَلَيْسَ حَالُ عُمَرَ مِنْ هَذَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ فِي عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْهَا ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَحْظَةً مَعَ الْغَلَبَةِ ثُمَّ يَصْحُو إلَى نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ وَالْغَاضِبِ وَمَدَافِعِ الْأَخْبَثَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ ذِهْنِهِ لِغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } :
الْجُنُبُ فِي اللُّغَةِ : الْبَعِيدُ ، بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ عَنْ حَالِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ الْجُنُبُ مَعْرُوفًا ، وَهُوَ الَّذِي غَشِيَ النِّسَاءَ ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا . وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ، ثُمَّ أَثْبَتَتِ الشَّرِيعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَاتِهِ وَتَفْضِيلَهُ ، وَهُوَ إيلَاجٌ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ بِشَرْطِ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ دُونَ إنْزَالٍ ، أَوْ إنْزَالُ الْمَاءِ دُونَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } :
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ } لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ : لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا ، إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ ؛ أَيْ مُجْتَازِينَ غَيْرَ لَابِثِينَ ؛ فَجَوَّزُوا الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْسُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ : لَا تُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لَهَا ، أَوْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ ، فَتَيَمَّمُوا وَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ جُنُبٌ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إذَا وَجَدْتُمُ الْمَاءَ .
وَرَجَّحَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَذْهَبَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ مُجْتَازًا .
وَرَجَّحَ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ : «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ » . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
و الْمَسْأَلَةُ تَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَنْقِيحٍررر ، وَقَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُشِيرُ إلَيْهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ :
لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ ؛ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهَا رَجَّحْنَا احْتِمَالَاتِهَا حَتَّى نَرَى الْفَضْلَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا ؛ فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْعُبُورَ لَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ ؛ وَأَحْسَنُهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَذْفٍ كَثِيرٍ وَتَأْوِيلٍ طَوِيلٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } .
قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَأَوَّلْتُمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنَّ أَوَّلَ مَا يُحْفَظُ سَبَبُ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ ، وَتُحْفَظُ فَاتِحَتُهَا فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، حَتَّى نَرَى مَا يَرُدُّنَا عَنْهَا وَيَحْفَظُ لُغَتَهَا ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا تَقْرَبُوهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمَكَانِ ، فَكَيْفَ يُضْمَرُ الْمَكَانُ وَيُوصَلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؟ هَذَا مُحَالٌ .
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : لَا تُصَلُّوا سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْعُبُورُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ ؟
قُلْنَا : بِأَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ بِالتَّيَمُّمِ جُنُبًا ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يُسَمَّى الْمُسَافِرُ عَابِرِي سَبِيلٍ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ، بَلْ يُقَالُ لَهُ عَابِرُ سَبِيلٍ حَقِيقَةً وَاسْمًا ، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا سَبِيلٌ تُعْبَرُ . وَفِي الْآثَارِ : «الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا » .
وَقَدِ اتَّفَقُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ مَا قُلْتُمْ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ . قُلْنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي تَفْهِيمِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَثَلُكَ ، وَأَمَّا مَعَ مَنْ يَفْهَمُ فَالْحَالُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا كَمَا أَعْرَبَتْ الصَّحَابَةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } ، فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إلَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ؛ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَعَ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ إلَّا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَهُ ؛ وَهِيَ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ثَبَتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ : «كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمُ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ، وَيَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ » ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِهَذَا جَاهِلٌ فَظَنَّ أَنَّ اللُّبْثَ لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزٌ . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَدْخُلُهُ مَنْ لَا يُرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ ، و لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا ؟
فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ بِالْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ .
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَيَشُقُّ الْوُضُوء لَهُ ، وَالشَّرِيعَةُ لَا حَرَجَ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ ، فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ، لِأَنَّهَا تَقَعُ نَادِرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَدَثِ الْوُضُوءِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ ؛ هُوَ قِيَاسٌ ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ يَرَوْنَهُ دَلِيلًا ؛ فَإِنْ وَجَدْنَا مُبْتَدِعًا يُنْكِرُهُ أَخَذْنَا مَعَهُ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ كَمَا قَدْ رَأَيْتُمُونَا مِرَارًا نَفْعَلُهُ فَنَخْصِمُهُمْ وَنَبْهَتُهُمْ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } :
وَهُوَ لَفْظٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ بِالْيَدِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ مَا كَانَ مَنَعَ مِنْهُ ؛ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً .
وَظَنَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغُسْلَ عِبَارَةٌ عَنْ صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً لَاسِيَّمَا وَقَدْ فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالْغَمْسِ فِيهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَأَتْبَعَهُ بِمَاءٍ وَلَمْ يَغْسِلْهُ . وَهَذَا نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } اقْتَضَى هَذَا عُمُومَ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ بِاتِّفَاقٍ ؛ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالدَّلْكِ ، وَأَعْجَبُ لِأَبِي الْفَرَجِ الَّذِي رَأَى وَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغُسْلَ دُونَ ذَلِكَ يُجْزِي ؛ وَمَا قَالَ مَالِكٌ قَطُّ نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا ، و إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ غَرِيبًا لَمْ يَخْرُجْ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْ كَانَ احْتِيَاطًا لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ ، وَلَوْ صَبَبْت عَلَى نَفْسِكَ الْمَاءَ كَثِيرًا مَا عَمَّ حَتَّى تَمْشِيَ يَدُكَ ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُهْنِيَّةٍ يَدْفَعُ الْمَاءَ عَنْ نَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَمَّ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْمَاءِ أَجْزَأَهُ إجْمَاعًا ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ فِي دَوَاوِينَ صِحَاحٍ عَلَى السُّنَّة عُدُول قَالُوا : رَوَتْ عَائِشَةُ : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ فِيهِ أَصَابِعَهُ وَفِي أُصُولِ الشَّعْرِ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ » .
وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ : «ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ » . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ » . قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ أُدْخِلْ فِي كِتَابِي إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } وَفَهِمَ الْكُلُّ مِنْهُ عُمُومَ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ وَالْغُسْلِ بَالَغَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ ، وَحُكْمُهُمَا حُكْمٌ ظَاهِرُ الْوَجْهِ بِدَلِيلِ غَسْلِهِمَا مِنْ النَّجَاسَةِ ، كَمَا يُغْسَلُ الْخَدُّ وَالْجَبِينُ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهَا . وَاللُّبَابُ مِنْهَا أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ بَاطِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّكَ تُشَاهِدُ بُطُونَهُمَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّائِمَ إذَا بَلَعَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ الرِّيقِ فِي فَمِهِ فَلَا يُفْطِرُ ، وَلَوْ ابْتَلَعَهُ مِنْ يَدِهِ لَأَفْطَرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ مُسْتَوْفَاةٌ ، فَمَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إنَّ اسْمَ الْجَنَابَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ مُدَّةٍ إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاغْتِسَالُ ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِالْغَايَةِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَتِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } يَقْتَضِي النِّيَّةَ ، خِلَافًا لِمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ ؛ وَلَفْظُ " اغْتَسَلَ " يَقْتَضِي اكْتِسَابَ الْفِعْلِ ، وَلَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا لَهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَيْهِ حَقِيقَةً ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْمَجَازِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ بِالْإِنْصَافِ وَالتَّلْخِيصِ ؛ أَعْظَمُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ » . وَلَا يَكُونُ شَطْرُ الشَّيْءِ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ . قَالَ : وَالْوُضُوءُ نُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَلَا تَسْتَنِيرُ الْجَوَارِحُ بِالْمُبَاحَاتِ ، وَإِنَّمَا تَسْتَنِيرُ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَالَ : «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ . . . » الْحَدِيثَ ، وَلَا يَنْفِي الْأَوْزَارَ إلَّا الْعِبَادَاتُ ، وَالْقُرْآنُ يَقْتَضِي وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا سَتَرَوْنَهُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } :
الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنِ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَالشُّذُوذِ ؛ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : يَسِيرٌ وَكَثِيرٌ ، وَقَدْ يَخَافُ الْمَرِيضُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، وَقَدْ يَعْدَمُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ وَهُوَ يَعْجِزُ عَنْ تَنَاوُلِهِ ، وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَرِيضٍ إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ وَتَأَذِّيهِ بِالْمَاءِ .
وَرُوِيَ عَنِِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُبَاحُ التَّيَمُّمُ لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ التَّلَفَ ؛ وَنَظَرَ إلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ الْمُتَيَقَّنِ لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ .
قُلْنَا : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ تَرُدُّ إلَيْهِ كَلَامَكَ ؛ بَلْ قَدْ نَاقَضْتَ ؛ فَإِنَّكَ قُلْت : إذَا خَافَ التَّلَفَ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ ، فَكَمَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَفِ كَذَلِكَ يُبِيحُهُ لَهُ خَوْفُ الْمَرَضِ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَحْذُورٌ ، كَمَا أَنَّ التَّلَفَ مَحْذُورٌ ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ : إذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنَ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ فَكَيْفَ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ ؟
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ؛ فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ ؛ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : قَتَلُوهُ ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ . أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ؛ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ » . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُولُ : لَوْ زَادَ الْمَاءُ عَلَى قِيمَتِهِ حَبَّةً لَمْ يَلْزَمْ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ ؛ وَيَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى بَدَنِهِ الْمَرَضَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } :
رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَةٌ فَفَشَتْ فِيهِمْ ، ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : «كُنْت فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنْت بِذَاتِ الْجَيْشِ ضَلَّ عِقْدٌ لِي . . . » الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . قَالَ : فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ مُعْضِلَةٌ مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ عِنْدَ أَحَدٍ ، هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ : إحْدَاهُمَا فِي النِّسَاءِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ ، فَلَا نَعْلَمُ أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَةُ .
وَآيَةُ التَّيَمُّمِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّازِلَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْعَقْدِ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ : سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : سَنَةَ خَمْسٍ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ . وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ . فَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ ، وَحَانَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ . فَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةٌ وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ، وَإِحْدَاهُمَا سَفَرِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حَضَرِيَّةٌ ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ خَبَّأَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ بَيَانُهُ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ ، وَلَقَدْ عَجِبْت مِنَ الْبُخَارِيِّ بَوَّبَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّيَمُّمَ ، وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فَقَالَ : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ » . وَبَوَّبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ : بَابُ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِصَّةَ عَائِشَةَ ، وَأَرَادَ فَائِدَةً أَشَارَ إلَيْهَا هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } إلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَهَا قِصَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ قُرِنَتْ بِهَا .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ يُذْكَرُ التَّيَمُّمُ فِيهَا فِي الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ النَّازِلَةُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مَفْعُولًا غَيْرَ مَتْلُوٍّ ، فَكَمُلَ ذِكْرُهُ ، وَعَقَّبَ بِذِكْرِ بَدَلِهِ وَاسْتُوْفِيَتِ النَّوَاقِضُ فِيهِ ، ثُمَّ أُعِيدَتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى . . . } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُرَكَّبَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } ، حَتَّى تَكْمُلَ تِلْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ جَاءَ بِأَعْيَانِ مَسَائِلِهَا كَمَالُ هَذِهِ ، وَيَتَكَرَّرُ الْبَيَانُ ، وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَةَ عَائِشَةَ هِيَ آيَةُ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَدِينَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } يَعْنِي مِنْ النَّوْمِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } هَاهُنَا خِلَافُ قَوْلِهِ : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فِي الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ هُنَاكَ شَرْطٌ فِي الْإِفْطَارِ ، فَاعْتَبَرْنَاهُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، وَحَدَّدْنَاهُ ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّفَرِ ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ ؛ فَأَمَّا عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ فَنَادِرٌ ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَالتَّيَمُّمُ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ . وَفِي الْمُدَوَّنَةِ : يُعِيدُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ اتِّهَامٌ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا اسْتَقْصَرَ فِيمَا إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ ، وَالنَّاسُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَيَمَّمُ فِي الْحَضَرِ إلَّا مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ ، يُقَالُ لَهُ ، أَوْ طَلِيقٌ طَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَرَضِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَقْدِرَةِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ شَرِيفًا بَدِيعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ حَتَّى تَيَمَّمَ فِي الْحَائِطِ . وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } .
وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي التَّسَتُّرِ ، فَكُنِيَ بِهِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، وَشُرِطَ الْوُضُوءُ بِهِ شَرْعًا ؛ وَكَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : أَوْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ حَدَثًا مُعْتَادًا ، ضُرِبَ لَهُمْ بِهِ الْمِثْلُ ، وَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَإِلَّا إذَا كُنْتُمْ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ؛ وَلِكُلِّ شَيْءٍ بَيَانُ صِفَةِ غُسْلِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْخَارِجَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ وَصَارَ دَاءً ، و الدَّلِيلُ عَلَيْهِ سُقُوطُ اعْتِبَارِ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ دَمُ عِلَّةٍ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ بِتَفْصِيلِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } :
فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ ، وَأَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَمُتَعَلِّقَاتٌ مُخْتَلِفَاتٌ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطُّيُولِيَّةِ ؛ وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا مَا فِيهِ بِطُرُقِهِ الْبَدِيعَةِ ، وَخُذُوا الْآنَ مَعْنًى قُرْآنِيًّا بَدِيعًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : حَقِيقَةُ اللَّمْسِ إلْصَاقُ الْجَارِحَةِ بِالشَّيْءِ ، وَهُوَ عُرِفَ فِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهَا آلَتُهُ الْغَالِبَةُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ : اللَّمْسُ هُنَا الْجِمَاعُ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : هُوَ اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا ؛ فَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ : لَمَسْتُمْ : وَطِئْتُمْ ، وَلَامَسْتُمْ : قَبَّلْتُمْ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ ، وَاَلَّذِي يَكُونُ بِقَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمَرْأَةِ هُوَ التَّقْبِيلُ ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَا عَمَلَ لَهَا فِيهِ .
قَالَ أَبُو عَمْرو : الْمُلَامَسَةُ الْجِمَاعُ ، وَاللَّمْسُ لِسَائِرِ الْجَسَدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِقْرَاءٌ لَا نَقْلَ فِيهِ عَنْ الْعَرَبِ .
وَحَقِيقَةُ النَّقْلِ أَنَّهُ كُلَّهُ سَوَاءٌ ؛ ( وَإِنْ لَمَسْتُمْ ) مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، كَقَوْلِهِ : لَامَسْتُمْ ، وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِفِعْلِ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعِفُّ ؛ كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ كُوفِيٌّ ، فَمَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ خَالَفَهُ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَجَعَلْنَا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ حُكْمَهَا ، وَجَعَلْنَاهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ ذَلِكَ وَلَا تَعَارَضَ ؛ وَهَذَا تَمْهِيدُ الْمَسْأَلَةِ .
وَيُكْمِلُهُ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا جُنُبًا } أَفَادَ الْجِمَاعَ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } أَفَادَ الْحَدَثَ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ } أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ ؛ فَصَارَتْ ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِعْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعَ لَكَانَ تَكْرَارًا ، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَنَابَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا ، فَلَمَّا ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدَثِ - وَهُوَ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ - ذَكَرَ سَبَبَ الْجَنَابَةِ ، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ لِلْجِمَاعِ ؛ لِيُفِيدَ أَيْضًا بَيَانَ حُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يَمْنَعُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَيْنِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : رَاعَى مَالِكٌ فِي اللَّمْسِ الْقَصْدَ ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ نَاقِضًا لِلطَّهَارَةِ بِصُورَتِهِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ ؛ وَاَلَّذِي يَدَّعِي انْضِمَامَ الْقَصْدِ إلَى اللَّمْسِ فِي اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ اللَّمْسَ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَذْي مَنْزِلَةَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ . فَأَمَّا اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } :
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ كَالْجَنَابَةِ ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَوْ لَمَسَ صَغِيرَةً يُنْتَقَضُ طُهْرُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ لَمْسَ الصَّغِيرَةِ كَلَمْسِ الْحَائِضِ . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ اللَّذَّةَ ، وَإِنْ أَخْرَجَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ عَنْهَا فَقَدْ اُنْتُقِضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ . وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا اللَّذَّةَ ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ حُكْمُهَا ، وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : يَدْخُلُ فِي حُكْمِ اللَّمْسِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا } سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِالِاسْمِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } :
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اغْتَسِلُوا وَاطَّهَّرُوا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ اقْتِضَاءً قَطْعِيًّا ، إذْ هُوَ الْغَاسُولُ وَالطَّهُورُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ، فَصَرَّحَ بِالْمُقْتَضِي ، وَكَانَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ التَّصْرِيحُ وَالِاقْتِضَاءُ ؛ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : فَائِدَةُ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِفَاعُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، فَلَمْ تَقْدِرُوا ؛ لِيَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا ، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ صُورَةً ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرُورَةٍ صَارَ مَعْدُومًا حُكْمًا ؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ نَشْرَ الْكَلَامِ ( فَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ) . وَهَذَا يَعُمُّ الْمَرَضَ وَالصِّحَّةَ إذَا خَافَ مِنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِصًّا أَوْ سَبُعًا ، وَيَجْمَعُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ ؛ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الصَّرِيحُ ، وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ ، وَالْأَصْوَبُ بِالتَّصْحِيحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بِزَائِدٍ عَلَى قِيمَتِهِ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حُكْمًا ، وَقِيلَ لَهُ تَيَمَّمْ .
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُجُودُ الْحُكْمِيُّ ، لَيْسَ الْوُجُودَ الْحِسِّيَّ ؛ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، إنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ ، كَمَا لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَعَلَيْهِ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ ، أَوْ رَآهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ مَقْرُونٍ بِالْقُدْرَةِ ؛ وَإِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِهَا ، وَلَا تَبْطُلُ إلَّا بَعْدَ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَاءِ ، فَلَا بُطْلَانَ لَهَا ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوْرِيَّةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ " فَلْتُنْظَرْ فِيهِ ؛ وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ ؛ هِيَ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا يُعَدُّ وَاجِدًا وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ : إنَّهُ يُجْزِئُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مَاءً } :
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ ، وَهُوَ يَعُمُّ لُغَةً ؛ فَيَكُونُ مُفِيدًا جَوَازَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ ؛ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ ! الْآنَ يَسْتَدِلُّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِاللُّغَاتِ ، وَيَقُولُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ ، وَهُمْ يَنْبِذُونَهَا فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ بِالْعَرَاءِ !
وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّفْيَ فِي النَّكِرَةِ يَعُمُّ كَمَا قُلْتُمْ ، وَلَكِنْ فِي الْجِنْسِ ؛ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ ؛ فَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَاءُ الْبَاقِلَّاءِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالزَّعْفَرَانِ فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ " .
وَمِنْ هَاهُنَا وَهَمَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ إذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كُلِّهَا أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا كَفَاهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيه ؛ فَخَالَفَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
أَمَّا مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ، وَأَرَادَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ ، ثُمَّ قَالَ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يَقُومُ لَهُ بِحَقِّ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَالتَّكْلِيفُ لَهُ ؛ فَإِنّ آخِرَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِأَوَّلِهِ .
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْأُصُولِ فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعٌ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، وهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ النَّارِ أَوْ لِأَنَّهُ طِينُ جَهَنَّمَ ، وَكَأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إلَى أَنَّهُ مَاءُ عَذَابٍ فَلَا يَكُونُ مَاءَ قُرْبَةٍ .
وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلُوا بِهِ بِدِيَارِ ثَمُودَ أَلَّا يُشْرَبَ وَلَا يُتَوَضَّأَ مِنْ آبَارِهِمْ إلَّا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ ، وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ ؛ وَهِيَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ : «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ » .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ هُوَ طَهُورُ الْمَلَائِكَةِ ، إذَا نَزَلُوا تَوَضَّئُوا ، وَإِذَا صَعِدُوا تَوَضَّئُوا ، فَيُقَابَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَبْقَى لَنَا مُطْلَقُ الْآيَةِ ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } : مَعْنَاهُ فَاقْصِدُوا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا فَائْتَمُّوا ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَأَمْلَحُ ؛ فَإِنَّ اقْصِدُوا أَمْلَحُ مِن اتَّخِذُوهُ إمَامًا ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ لَفْظًا وَمَعْنًى .
قُلْنَا : لَيْسَ الْقَصْدُ إلَيْهِ لِلِاسْتِعْمَالِ بَدَلَ الْمَاءِ هُوَ النِّيَّةُ ، إنَّمَا مَعْنَاهُ اجْعَلُوهُ بَدَلًا ، فَأَمَّا قَصْدُ التَّقَرُّبِ فَهُوَ غَيْرُهُ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَتَيَمَّمُوا } إنْ كَانَ يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ فَقَوْلُهُ : تَطَهَّرُوا وَاغْتَسِلُوا يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَتِ النَّظَافَةُ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ . قُلْنَا : وَكَذَلِكَ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَ التَّلَوُّثُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { صَعِيدًا } :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : وَجْهُ الْأَرْضِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّانِي : الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّالِثُ : الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ .
الرَّابِعُ : التُّرَابُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ - وَهُوَ صَرِيحُ اللُّغَةِ - أَنَّهُ وَجْهُ الْأَرْضِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ رَمْلٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ تُرَابٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ : { طَيِّبًا } :
قِيلَ : إنَّهُ مُنْبِتٌ ، وَعُزِيَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ ؛ وَعَضَّدَهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ : إنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِحْيَاءِ إلَى التُّرَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْبَاتِ .
وَقِيلَ : إنَّهُ النَّظِيفُ . وَقِيلَ : إنَّهُ الْحَلَالُ . وَقِيلَ : هُوَ الطَّاهِرُ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا الطَّاهِرُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا تَيَمَّمَ عَلَى بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ جَاهِلًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَعَادَ أَبَدًا .
قُلْنَا : هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الَّذِي نَنْصُرُهُ الْآنَ ، وَكَلَامُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ نَقَلَ مِنْ أَصْلِ الْإِحْيَاءِ إلَى أَصْلِ الْإِنْبَاتِ فَهُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ؛ عَلَى أَنَّا نَقُولُ : نَقَلَنَا مِنَ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ، وَمِنْهَا خَلَقَنَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَامْسَحُوا } : وَالْمَسْحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَرِّ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً ، فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْلِ الْآلَةِ إلَى الْيَدِ وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوحِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : وَالْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : شَرْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ .
وَالسَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْوَجْهِ .
وَالسَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : سُقُوطُ قَوْلِهِ { مِنْهُ } هَاهُنَا وَثُبُوتُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : دُخُولُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِهَا بِهِمَا . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ ؛ فَوَجْهُ الْإِسْقَاطِ هَاهُنَا تَخْفِيفُ التَّكْلِيفِ ، وَلَوْ رُدَّ بِأَكْثَرَ لَلَزِمَ ، وَوَجْهُ بَدَلِهِ إعْطَاؤُهُ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ ، وَرَفْعُهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي الطَّاعَاتِ ؛ وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي آيَاتِ الذِّكْرِ ، وَمِنْهُ نُبْذَةٌ فِي " شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ " فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .