الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ من ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا ، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ :
المسألة الثَّانِيَةُ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ » . قَالَ الرَّاوِي : وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ من كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ من تَأْوِيلِ الرَّاوِي . وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا . وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ ، كَمَا قَالَ : «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ » ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [ بِنَصِّهِ ] عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ : «إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ » ، وَشَبَهُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ من أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ من السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ ، فَرُخِّصَ فِيهِ من الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ من أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا » .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ «إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا » ، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ لِأَجْلِ الْقَمْلِ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا ، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا ، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ من إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ من إبَاحَةِ الْعَلَمِ ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ . وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ » .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ : «أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً ، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ . وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا » . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ : أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ » .
وَهَذَا ظَنٌّ من عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا ، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا ، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ » .
وَفِي رِوَايَةٍ «شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ » ، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ عَلِيَّ ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ : «فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ من طُولِ مَا لُبِسَ » . وَهَذَا نَصٌّ .
المسألة الثَّانِيَة : الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا » ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ من ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ : اتَّخَذْت أَنْمَاطًا ؟ قُلْت : وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ » . وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا ، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا .
المسألة الرَّابِعَةُ : لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
المسألة الْخَامِسَةُ : فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، من رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ » .
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ » .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ : «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا » ؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا ، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ من الْمَتَاعِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ «عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ » ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا .
المسألة السَّادِسَةُ : إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ من الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ . وَقَالَ : «لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَتَرَكَهُ .
المسألة السَّابِعَةُ : إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ .
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا ؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا ؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ من هَذَا .